نشرة كنيستي- الأحد (17) من متّى (الكنعانيّة)- العدد 7
18 شباط 2024
كلمة الرّاعي
تحدّيات العائلة المسيحيَّة (4) – المواد الإباحيَّة وتأثيرها على الأفراد والعائلة
“أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَلْنُطَهَّرْ أَنْفُسَنَا مِنْ كُلِّ أَدْنَاسِ الجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلْنُكَمِّلِ القَدَاسَةَ بِـمَخَافَةِ اللهِ” (2 كو 7: 1)
صرنا في زمن كلّ شيء فيه مُباح ومتوفِّر بسهولة خاصَّة فيما يتعلَّق بالمُفسِدات. الأخلاق لم تعُد مسألة ثابتة، صارت نسبيّة ومسألة فرديَّة خاصَّة. لكلّ إنسان معاييره في هذا المجال. لماذا وصلنا إلى هنا؟ لأنّ مفهوم التَّحضُّر والتَّطوُّر وُضع في مجابهة الإيمان المسيحيّ، بشكلٍ خاصّ، وكلّ ما يَنبع منه من أسس ومبادئ روحيَّة وأخلاقيَّة. العالم الغربي الَّذي كان يُصبَغَ بالصِّبغة المسيحيَّة في مبادئه وأسسه، وحتّى حقوق الإنسان الّتي أساسًا انبثقت من المبادئ الإيمانيَّة المسيحيَّة، كلّها صارت ضدّ مصدرها الأساسيّ الَّذي هو المسيحيَّة. العالم الغربيّ وحضارته وحقوق الإنسان فيه صارت كلّها مشوَّهة مَمْسُوخة لإرضاء إبليس عند الَّذين يحكمون هذه الفانية. غاية ما يسمَّى “الحضارة” اليوم هي، في العمق، القضاء على إنسانيّة الإنسان وتأكيد نظريَّة “الغوييم” الصهيونيَّة أي “حَيْوَنَت” البشر وجعلهم في شبه البهائم والوحوش البريّة عبر دفعهم للعيش فقط للأكل والشِّرب واللَّذة…
عالم اليوم هو عالم اللَّذَّة بامتياز حيث كلّ شيء مربوط بلذّة الأجساد. الحياة نفسها لم يَعُد لها معنى سوى التّلذُّذ والاستمتاع بالأبدان وكأن الإنسان صار فقط بَدَنًا وحياته تتمحور حول اجتناء اللَّذة من هذا البَدَن بأيّة طريقة ممكنة. هذه الفلسفة الشَّيطانيَّة للنَّظرة للإنسان هي مصدر الإباحيَّة بكلّ أوجهها، وغايتها تحقير صورة الله في هذا الأخير. المسألة ليست كما تُطرَح اليوم، أي من زاوية “حرّيّة” الإنسان، هذه هي الواجهة الجذّابة والإيجابيَّة المظهر ولكن المزيَّفة لهذه المسألة، المسألة الحقيقيّة هي تأكيد نظريَّة الـ”غوييم” نحو حقيقة البشر، هذا من جهة، واستعباد الإنسان لِلَحْمِيَّتِهِ للسَّيطرة عليه وإلهائه بملذّاته، وللسَّيطرة على العالم وحكمه من أصحاب الأموال القابضين على النِّظام الماليّ العالميّ وحكومات الدُّول المختلفة…
* * *
أمام العائلة اليوم تحدٍّ كبير وهو الحفاظ على قيمة الإنسان في نظرته لنفسه وللإنسان الآخَر. دور العائلة أن تحافظ على صورة الله في الشَّخص والجماعة، وأن تحارب تشيييء الشَّخص البشريّ. على الأهل أن يُحسنوا تربية أولادهم على المبادئ الإيمانيَّة بما يختصُّ بالجسد وقدسيّته، بالإنسان وحقيقته، بالجمال وطبيعته، وبالخالق كمصدر لكلّ ما هو حلو وصالح. على الأهل أن يُحاوروا أولادهم ويثقّفوهم ويعلّموهم حقيقة النّظرة الإيمانيَّة للجنس كطاقة حبّ وتعبير عن الوَحدة وسعي إليها من خلال عطاء الذّات الكلّيّ بين الزَّوجيَن، وأنّ الجنس لا ينفصل عن الحبّ، وأنّ الحبّ يُطهِّر الجنس من شهوانيّته بقدر ما يكون اللِّقاء الحميميّ بذلًا للذَّات لأجل فرح الآخَر، كون اللِّقاء في الحبّ بين الزَّوجَيْن لا ينفصل عن التَّكريس كلّ الواحد للآخَر ولا عن مجمل مسيرة الحياة المشتَرَكة.
الإباحيَّة تحقير للإنسان كونها تجعله أداةً ووسيلة لاقتناء لذّة، ومن هنا يختفي الشَّخص في مفهوم الإباحيَّة ليصير بَدَنًا وجسدًا، لا وجه في الإباحيَّة لأنّ الآخَر واسطة لإشباع الشَّهوة الجنسيَّة وما عدا ذلك لا قيمة له، قيمته كقيمة سيجارة يدخّنها المرء ويرميها أو يسحقها بقدمه بعد انتهائه منها.
* * *
مخاطر الإباحيَّة كثيرة ومتعدِّدة لأنّها تصير إدمانًا كما إدمان المخدِّرات، لذا وَجَب على الأهل الكثير من التّنبُّه لما يتعاطاه أولادهم حين يستعملون الانترنت، وأن يراقبوا أولادهم مراقبة ذكيّة ليوجّهوهم ويُوَعُّوهم حول المخاطر والسَّلبيَّات، ويُرشدوهم إلى ما يجب أن يشاهدوا وما يجب أن يرفضوا مشاهدته من خلال زرع الحِسِّ النَّقدِيّ لديهم بناءً على المبادئ الأخلاقيّة المُنبثقة من إيمانهم حول الإنسان والعائلة، وحَوْل الحُبّ والشَّهوة، وحول القيم الإنسانيَّة واحترام الذّات واحترام الآخَر.
في هذا الإطار، أظهرت الدِّراسات أنَّ مشاهدة المواد الإباحية قد تؤدِّي عند الأطفال إلى سلوكيَّات جنسيَّة مُنحرِفة ضِدَّ الأطفال الأصغر سنًّا، إذ الأطفال غالبًا ما يقلِّدون الَّذي يرونه أو يسمعونه أو يقرأونه. من هنا، أنّ الطّفل المنحرف جنسيًّا مرجّح أن يكون قد تعرَّض للتَّحرُّش الجنسيّ أو مشاهدة الجنس عبر المواد الإباحيَّة. مَنْ يشاهدون الأفلام الإباحيَّة تتشكّل لديهم نظرة غير سويَّة إلى المرأة أو الرَّجل والعلاقات الجنسيَّة بشكلٍ عام، ما يؤدّي إلى انحراف السُّلوك الجنسيّ مع التَّقدُّم في العمر وفقدان الثِّقة بالزَّواج كمؤسّسة حيويّة ودائمة.
كذلك، مشاهدة الأفلام الاباحيّة قد تؤدّي إلى إدمان الجنس ممّا يؤثّر على العلاقات الشَّخصيّة عند المُدمِن، بشكلٍ عام، سواء بسبب التَّوتر النّفسيّ الَّذي قد يسبِّبه هذا النَّوع من المُشاهدة بالإضافة إلى الكآبة أو بسبب التَّوقّعات غير الواقعيّة للعلاقات الجنسيّة، وهذا ما يسبّب تدميرًا للعلاقات الزَّوجيَّة والعلاقات الشَّخصيّة للفرد، بالإضافة إلى التّأثيرات السّلبيّة على صحّته النّفسيّة، مثل الشُّعور بالذَّنب أو العار، وزيادة القلق والاكتئاب. هذه الممارسة تزعزع تمسُّك الشَّخص بقيمه وأخلاقيّاته وبإيمانه، وتجعله يُلحِد عمليًّا ويفقد الاحترام للعلاقات البشريَّة ويتجاهل القيم الإنسانيَّة ويبتعد عن التَّواصل الصّحيّ مع الآخَر وخاصّة الشّريك في الزّواج، ممّا يساهم في تدمير العلاقة بين الزَّوْجَين وبين الأهل وأولادهم، وبينهم وبين المجتمع.
* * *
أيّها الأحبَّاء، لنتيقَّظ لئلَّا تتسرَّب هذه الآفة إلى منازلنا وأولادنا فتدمّرها وتخرب البيوت العامرة وتهدم النُّفوس الطّاهرة، وتشوِّش العقول المستقيمة وتُسْقِمُ الأجساد السَّليمة. العائلة هي الوحدة (unit) الأساسيّة في المجتمع وهي الإطار السَّليم والطَّبيعيّ والمُكرَّس بالنِّعمَة لفرح الإنسان واستقراره في الرُّوح والنَّفس والجسد. الإنسان السَّليم يَنشأ في عائلة مستقرِّة، ومصدر الاستقرار إيماننا بالمسيح سلامنا وفرحنا، الَّذي منه وفيه علينا أن نربّي أولادنا في جسده-الكنيسة لينشأوا على معرفته وخبرة العيش معه. حين يكون الزَّوجان مؤمنان ويعرفان الله، ينقلان محبّته إلى أولادهما، ويعيشان بعفَّة وأمانة زوجيَّة ويرتقيان بعلاقتهما الزَّوجيَّة إلى الطُّهر بالمحبَّة الباذلة والمُضَحِّية الّتي فرحها إرضاء الآخَر في الرَّبّ. حتّى تعيش العائلة سرّ المحبَّة في الشَّركة والحوار على الأهل أن يعطوا أولادهم الوقت الكافي من التَّواصل والمحبَّة ممّا يُبعِد الكلّ عن الشَّهوات الضارَّة وكلّ طلب لذّة لأنّ لذّة حياة الشَّركة والحنان المُعاش بين الزَّوجين ومع أولادهم يجعل روح الرَّبّ ساكنًا معهم وفيما بينهم وفيهم، فيحفظهم من الزّلات والسَّقطات وطلب المفاسِد…
“اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة…” (مت 26: 41).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما