نشرة كنيستي- أحد مرفع اللَّحم (الدَّينونة)- العدد 10
10 آذار 2024
كلمة الرّاعي
تحدّيات العائلة المسيحيَّة (5) – الصَّوم والتَّربية على الاهتمام والخدمة
“مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا” (رو 12: 16)
في مسيرة التَّحضير لدخول الصَّوْم الكبير المقدَّس تضعنا الكنيسة المقدّسة في هذا الأحد أمام منبر الرّبّ الرّهيب في يوم الدّينونة العامّة حيث “يَـجْلِسُ (الرّبّ) عَلَى عَرْشِ مَـجْدِهِ وَتـُجْمَعُ إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُـمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الجِدَاءِ” (مت 25: 31 – 32). حُكْمُ الرّبّ في هذا المثل يأتي بناء على أعمال الخدمة والرَّحمة الّتي قام بها النَّاس. من صنع رحمة وخدم محتاجًا يخلص، ومن لم يخدم ويرحم يُدان. النّاس من الفئتين لا يعرفون الرّبّ، أي هم ليسوا من المؤمنين الَّذين عرفوا المسيح كربّ وسيّد وختن للنّفوس، إذ يشير إليهم النصّ بـ“الأمم” أي الوثنيّين (τὰ ἔθνη)، ومع ذلك عاشوا وصيّة المحبّة والرَّحمة عبر الخدمة للمحتاج، لإخوة يسوع “الصّغار”، دون أن يعلموا أنّهم بهذا يخدمون الرّبّ يسوع المسيح نفسه.
في الكنيسة يمنحنا الله مواهب ويحمّلنا مسؤوليّات بوصيّة محبّته “لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ” (أف 4: 12). هذه المواهب والمسؤوليَّات نبدأ عيشها في العائلة، ونختبرها هناك أوَّلًا، لأنّ المحبَّة قائمة بين أعضائها، رغم ضعفات الإنسان ووجود الغيرة والحسد أحيانًا. إذًا، الإطار الأوّل لتعلّم روح الخدمة هو عبر الاهتمام بالأخ والأخت والوالدين والأقارب والجيران والرِّفقة… تتوسّع الدَّائرة مع نموّ العلاقات والنّضوج… لذلك، يقول الرّسول بولس: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ” (1 تي 5: 8). المحبّة والاهتمام والرَّحمة والخدمة لا بدّ أن تتجلَّى أوَّلًا في العائلة الصّغيرة مع أهل البيت والخاصّة، فمن لا يخدم خاصّته وأهله تكون كلّ خدمة أخرى يقوم بها باطلة، لأنّ من لا يحبّ القريب كيف له أن يحبّ الغريب؟!… و “مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟” (1 يو 4: 20).
* * *
روح الخدمة والاهتمام بحاجات الآخَر يتعلّمها الإنسان في البيت أوَّلًا، في عائلته. المحبَّة هي اهتمام وانتباه للآخَر، لأنّ الوصيّة الإلهيَّة غايتها ترجمة محبّة الله عبر محبَّة الآخَر، القريب والغريب، لأنَّ “أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ” (مر 12: 29 – 31). والقريب، كما هو واضح من الإنجيل، ليس هو الَّذي من لحمي ودمي فقط بل هو كلّ إنسان يضعه الله في دربي لأخدمه (راجع لو 10: 25 – 37).
التَّربية المسيحيَّة، عمليًّا، هي عكس التّربية الدّهريَّة (secular). الأولى تُنَشِّئُ الإنسان على الاعتراف بالآخَر المختلف على أنّه موضوع حبٍّ وخدمة وعطاء، بينما الثّانية تربّيه على أساس أنّ الآخَر هو للاستهلاك، هذا من جهة. من جهة أخرى، المسيحيَّة تعمل على تربية الإنسان شخصًا أي فردًا في تواصل، ممّا يعني أنّ تحقيق إنسانيّته مربوط عضويًّا ببنيان علاقة صحّيَّة مع الآخَر مؤسَّسَة على معرفته وبالتّالي التّكامل معه، بينما الدّهرية تبنيه على أساس أنّه فرد قائم في ذاته أي أنّه يحقِّق نفسه بقدر ما يعمل على إشباع مشيئته الخاصَّة بغضّ النّظر عن وجود الآخَر أو حتّى على حساب هذا الأخير…
النَّموذج الأساسيّ الَّذي تُبنى شخصيّة الإنسان، منذ الطّفوليَّة، بناءً عليه هما الوالِدَان. هذان، إذا كانا مؤمنين ويعيشان بحسب الوصيّة الإلهيَّة ينقلان لأولادهما هذه الرُّوح وهذا النّموذج، وإذا كانا دهريَّين ينتج عن تربيتهما أولاد دهريّون.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، في تحضيرنا للصَّوم الكبير المقدَّس تُذَكِّرنا الكنيسة بأهميّة الآخَر لخلاصنا وفي حياتنا. لا يمكن أن نخلص إن لم نهتمّ ببعضنا البعض ونخدم ونرحم واحدنا الآخَر. هذا أمر يجب علينا أن نزرعه في أولادنا، أن يكون في صلب تربيتنا لهم، أن نعيشه في عائلاتنا، أن يجسِّده الأهل أمام أبنائهم وأن يكونوا لهم قدوة في هذا الشّأن. إِنْ تَأَفَّفَ الأبُ أو الأمّ من خدمة العائلة فأيّ نموذج يقدّمان لأولادهما، إن لم يستطيعا أن يخدما بفرح من هم من لحمهما ودمهما فكيف لهما أن يعلّموهم أن يفرحوا بخدمة الَّذي هو خارج هذه الدّائرة من الخاصَّة؟!…
الصَّوم هو أساس في التّربية وفي عيش الإيمان، والصَّوم لا يستقيم دون الاهتمام بالآخَر الَّذي يحتاجني، دون أن أُفكِّر بغيري وبمن هو أضعف منّي روحيًّا أو مادِّيًّا. صَوْمي وصلاتي غايتهما أن أصير حرًّا من الأنانيَّة أي أن أقترب من الآخَر ومن حاجاته، وأن أعرف أنّني أحتاج الآخَر أيضًا وأنني لا أستطيع أن أكون مكتفيًا بنفسي. روح الصَّلاة والصّوم تدفعني إلى البحث عن يسوع في داخلي حتّى أعرفه في كلّ إنسان وحَّد هو نفسه فيه أي في إخوته “الصِّغار”…
التَّربية على الصَّوم تربية على عيش المحبَّة عبر الاهتمام بالآخَر أي مشاركته ما وَهبني إيّاه الله من خيرات ونِعَمٍ ومواهب، كما يقول المثل الانكليزي “sharing is caring”، والأهمّ أنّ الوصيّة الإلهيَّة تعلّمنا أنّنا لا نستطيع أن نعيش شريعة المحبَة الإلهيَّة كما أوصانا الرَّبّ يسوع إن لم نحمل أثقال بعضنا البعض، كما يقول الرَّسول بولس: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ” (غل 6: 2)…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما