نشرة كنيستي- الأحد ١٥ من لوقا (زكا) – العدد ٥
04 شباط 2024
كلمة الرَّاعي
تحدّيات العائلة المسيحيَّة (2) – التّربية المسيحيَّة السَّليمة
“أَدِّبِ ابْنَكَ، وَاجْتَهِدْ فِي تَهْذِيبِهِ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِيمَا يُخْجِلُكَ.” (سي 30: 13)
التَّربية السَّليمة في المفهوم العلميّ هي عمليّة توجيه الأطفال والشَّباب نحو السُّلوكيّات الإيجابيّة والمساعِدة في تطوير شخصيَّتهم ومهاراتهم الاجتماعيّة والعاطفيّة. تشمل التَّربية السَّليمة العديد من المبادئ والأساليب التَّي يمكن استخدامها لتحقيق هذه الأهداف، مثل توفير بيئة داعمة ومحفِّزة للنُّموّ الشَّخصيّ، وتعزيز الثِّقة بالنَّفس والتَّعلُّم الذّاتيّ، وتعزيز القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وتعزيز العلاقات الإيجابيّة مع الآخرين، وتعزيز الصّحّة النّفسيّة والعاطفيّة، وتعزيز القدرة على التّعامل مع التّحدّيات والصُّعوبات في الحياة.
حتّى تكون التَّربية مسيحيَّة سليمة ينبغي أن ينبثق كلّ عمل تربويّ للأهل مع أولادهم من خبرة عيشهم لإيمانهم المَسيحيّ القَويم، فلا تكون المبادئ التَّربويَّة مبنيَّة فقط على النَّظريَّات العلميَّة في هذا المجال بل مُشبَعة بخبرة معرفة الله – المحبَّة وبُنيان العلاقة مع الإله الحَيّ والحاضِر والفاعِل في حياة المؤمن. هذا، طبعًا، لن يحصل إن لم يكن الأهل مؤمنون ممارسون لإيمانهم من خلال عِشْرَة الكَلِمَة الإلهيّة والصَّلاة الشَّخصيّة والمشاركة في الأسرار الإلهيَّة وعّيْش الوصيّة في التَّوبة وتقويم الحياة وخدمة المحتاج…
* * *
العائلة المسيحيَّة عائلة مميَّزة برُوح المحبَّة والتّفهُّم والتّعاضد والشّركة والوَحدة، وهذه تتجلَّى أوَّلًا في العلاقة بين الأب والأم من خلال الاحترام المتبادَل وروح الفرح المنبثقة من محبَّة الوالدَين بعضهما لبعض والتَّي تُغذِّي حياة الأولاد بالرُّوح الإيجابيَّة واكتشاف الله كمصدر للحبّ والفرح، كما أنّها تتجلَّى في روح التّعاون والمشاركة والتَّضحية لأجل الآخَر ممّا يساعد الأولاد على تعلّم التّحرُّر من روح الأنانيّة. الدَّعم والتَّشجيع بين أعضاء العائلة أساسيّ في إطار تقوية الشَّخصيّة والثِّقة بالنَّفس كما النّقد البنّاء الَّذي يُعين من يتقبّله على التّطوّر نحو الأفضل.
طبعًا للوالدين الدَّوْر الأوَّل والأساس في التَّربية، وعلاقة الأولاد بهما تحدِّد بشكلٍ كبير علاقة الأولاد مع الله. في هذا الإطار، يعتبر الدّكتور كوستي بندلي بأنّ الطّفل في علاقته المبكّرة بوالدَيه “يبدأ باختبار الوَجهَيْن الأساسيَّين لله كما عرفناهما في يسوع المسيح، ألا وهما قربه الصَّميميّ الحَميم، من جهة، وما يمنحه هذا القرب من حبّ وطمأنينة وسلام، وتعاليه الَّذي لا يُحَدّ، من جهة أخرى، مع ما يفرضه هذا التّعالي من طاعة وتجرُّد وتجاوز مستمرّ للذّات ونموّ للقامة الإنسانيّة لا يقف عند حدّ” (كتاب: “الطفل بين أبويه والله، ص. 11). من المهمّ أنْ نعرف أنَّ العنصر الأوَّل تجسّده علاقة الطّفل بأمّه، أمّا العنصر الثّاني فتجسِّده علاقة الطّفل بأبيه.
* * *
في أيّامنا، نرى تراجعًا لدور الأهل التَّربويّ مع أولادهم، وتنامي لدور أشخاص آخَرين كالمساعدين في البيوت أو وسائل التّواصل والاعلام أو الرِّفقة الحقيقيّة أو الافتراضيّة. لا شكّ أنّ التّربية تتأثّر بعدّة عوامل وبيئات مختلفة مرتبطة بالعائلة نفسها وإطارها الاجتماعيّ، بالمجتمع المحيط والرِّفقة، بالمدرسة، وبكلّ ما أو من له دور في حياة الأولاد، وبالكنيسة. في مَعْمَعَة هذا المؤثّرات هل للأهل من دور في تثبيت من أو ما يجب أن يكون لهم التّأثير الأكبر في حياة أولادِهم. هل يهتمّ الأهل بأنْ يكونوا حاضرين في حياة أبنائهم ليمنحوهم الحنان والأمان ويكونوا لهم مرجعيَّة يُطيعونها فيتجاوزون ذواتهم لينموا في الكلمة الحقّ وتنموا شخصيّاتهم باستقامةٍ وتوازنٍ من خلال التَّقييم والتّقويم عبر سلطة الأهل ومحبّتهم.
من هنا أهميّة أن تكون مرجعيّة الأولاد أهلهم، وحين يكون الأهل مؤمنون ينقلون صورة صالحة عن الله في حياتهم ومثالهم، أوَّلًا، من خلال علاقتهم مع أولادهم، وثانيًا من خلال تعليمهم عن الرّبّ. استقامة هذه العلاقة مع الأب والأم والله ينبثق عنها أشخاص أسوياء على المستويات المختلفة النّفسيّة والجسديّة والرُّوحيَّة، شخصيّاتهم قويّة ولديهم المعايير التَّي تؤهّلهم ليميِّزوا ما هو صالح ممّا هو طالح، وما هو مقبول ممّا هو غير مقبول، وما هو خَيِّر ممَّا هو شرّير، وما هو مناسب ممّا هو غير مناسب…
* * *
أيُّها الأحبّاء، التَّحدّيات التَّي تواجه الأهل في تربية أولادهم كبيرة جدًّا في هذه الأيّام وهذا يرتّب عليهم مسؤوليّة جسيمة إذ ثقافة الإِفساد منتشرة بسهولة. من هنا، وجب على الأهل أن يهتمُّوا شخصيًّا بتربيّة أبنائهم على العيش مع الله، وأن يكونوا هم أنفسهم قدوة صالحة تكشف لأولادهم صورة إيجابيّة عن الله كمصدر لكلّ محبّة وحنان وسلطة وأمان. هذا يتطلّب أن يعلّم الأهل أولادهم حياة الإيمان بالقدوة، أي أن يُصلّوا معهم، ويقرأوا معهم الكلمة الإلهيّة ويفسِّروها لهم، أن يأخذوهم إلى الكنيسة للمشاركة في الصَّلوات المُختلفة والأسرار المقدَّسَة، وأن يتحاوروا معهم في أسئلتهم المختلفة ويجيبوهم انطلاقًا من إيمانهم، أن يكون الأب والأم مثالًا لأولادهم في التَّقوى والالتزام وذلك من خلال علاقتهما مع بعضهما البعض في البيت أوَّلًا…
العائلة المسيحيّة المؤمنة هي حصن المجتمع والعالم من الفساد ومن أفكار التشتُّت التَّي يتخبَّط بها عالم اليوم ولاسيّما أطفاله وشبابه، وهذا بسبب الحرب الممنهجة على العائلة من خلال التَّشريعات للشُّذوذ الجنسيّ وتكوين وحدات من ذوي الجنس الواحد والسَّماح لهم بتبنّي الأولاد أو انجابهم بطرق غير أخلاقيَّة…
طبعًا، لا يمكننا في هذه العجالة أن نَفي هذا الموضوع حقَّه، لكن وجب علينا التَّطرّق إلى مسألة التّربية المسيحيّة السَّليمة والعائلة للتَّذكير والتَّنبيه… والذّكرى تنفع المؤمن…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع.
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما