نشرة كنيستي- الأحد (14) من لوقا (الأعمى)- العدد 4
28 كانون الثّاني 2024
كلمة الرّاعي
تحدِّيات العائلة المسيحيَّة (1)- الجندرة
هذا زمن الحرب على المسيح والمسيحيّة بامتياز، ومن أهمّ الوسائل المُستعملة في هذه الحرب هي برامج تدمير العائلة بتكوينها الطّبيعيّ بعامّة والعائلة بمبادئها المسيحيَّة بشكلٍ خاصّ.
تستعمل الدُّول الغربيّة التَّشريع لتزوير حقيقة الإنسان ومَسْخِها وتشويهها. لا يوجد في العصر الحاضر مبادئ ثابتة، المبدأ الوَحيد الَّذي تُحاول قوى الحركة الاستهلاكيّة وضعه وفرضه هو مبدأ الفردانيَّة، أي أنّي أنا مبدأ وأساس ومقياس كلّ شيء، وأنّ كلّ ما يتعلَّق بحياتي “الخاصّة” يخضع لمقاييسي الذَّاتيَّة وتفضيلاتي ومشيئتي.
باسم الحرّيّة تُنشر هذه الأفكار المدمِّرة للإنسانيّة تحت غطاء حقّ الإنسان بتقرير حياته، وكأنّ الإنسان جزيرة منفصلة عن العالم. كذبة الحرّيّة في العصر الحاضر تُريد فرض ما هو شاذّ في حياة البشر عليهم، وما هو استثناء يُجعل قاعدة. لم يعد خافيًا أنّ قوًى عالميّة تتآزر لـ”ترويض” البشر وإخضاعهم لمفاهيم وقواعد تضادّ حقيقة الإنسان الأنطولوجيّة والأنثروبولوجيَّة الإيمانيّة والطّبيعيَّة. من يخالف المنطق الجديد يحاولون فرض هذا المنطق عليه بقوّة التّشريع والقانون…
* * *
اختراع جديد هو “الجندر” (gender) أي تعريف الشَّخص لذاته على أنّه ذكر أو أنثى أو ثنائيّ الجنس (Intersex). وتُعرَّف الهوية الجندريّة “Gender Identity” على أنّها المفهوم الشَّخصيّ الَّذي يحدّده الفرد لنفسه كذكرٍ أو كأنثى أو لكليهما معًا، أو ليس لأيٍّ منهما، ويرتبط هذا المفهوم ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الدَّور الجندريّ “Gender Role”، والَّذي يُعرّف بأنّه مجموعةُ المظاهر الشَّخصيّة الخارجيَّة الَّتي تعكس الهويَّة الجندريَّة. وقد أُدخل مصطلح “الجندر” إلى علم الاجتماع في العام 1972 من قِبَلِ عالمة الاجتماع الأمريكيَّة “آن أوكل” (Ann Oakly) من خلال كتابها “الجنس والنَّوع والمجتمع”، ثم انتشر المصطلح في أواخر الثَّمانينات من القرن المُنصَرِم، وانتقل إلى أوروبا، وكان أوَّل ظهور واعتماد دوليّ له عبر مؤتمر “السُّكان والتَّنمية” الَّذي عُقِد في القاهرة سنة 1994 وتَمَّ تأكيد مفاهيمه في الدَّوْرة التَّالية للمؤتمر في بكين عام 1995.
لماذا اختُرع هذا المصطلح؟ وما الغاية من فرضه في علم الاجتماع وعلى كلّ الشّعوب؟
* * *
الطَّبيعة البشريّة مُحدَّدة بجنسَيْن إثنين الذُّكورة (XY) والأنوثة (XX). طبعًا، يوجد حالات نادرة جدًّا مِنَ الأشخاص الَّذين يُولَدون في حالة “الاضطراب الجنسيّ التَّطوُّريّ” أي أمراض الكروموسومات الجنسيَّة، مثل متلازمة تيرنر ومتلازمة كلاينفلتر. علاج هذه الاضطرابات يمكن أن يشمل مجموعة من الخيارات، بما في ذلك العلاج بالهرمونات، والجراحة التَّصحيحيَّة، والدَّعم النَّفسيّ والاجتماعيّ.
إذًا، علميًّا لا يوجد ما يبرِّر خلق تشويش في عقول النّاس حول هويّتهم الجنسيّة كون هذه الهويّة مرتبطة طبيعيًّا بالجنس (sex) الَّذي يولدون عليه. الحجّة وراء اختراع مفهوم الجندرة هي الحرِّيَّة الفردانيّة. هذا صراع حقيقيّ وحرب حقيقيَّة على حقيقة الإنسان وطبيعته وهويّته الاجتماعيَّة المرتبطة بجنسه وبدوره في العائلة والمجتمع، كما أنّها في العمق حرب على الإيمان وترويج للإلحاد العَمَليّ عبر تشجيع الإنسان على عبوديَّة أهوائه من خلال تحديد أهداف الحياة بما هو مرتبط حصرًا بهذا العالم وما فيه من ملذّات وما يمكن للإنسان أن يحصّل فيه من إشباع لأهوائه وشهواته الّتي هي، حسب مفاهيم الزَّمن الحاضر المعَولَمَة، حقوقه.
الغاية من خلق مفهوم الجندرة تدمير العائلة الّتي هي الخليّة الأساسيّة للمجتمع وجوهر الإنسانيّة لأنّ الإنسان شركة هو، وهذا المفهوم لا ينفصل عن كلّ ما سبقه وما أتى بعده من فلسفات وأفكار لتحديد حياة النّاس في أطر ومنهجيّات وأشكال تتنافى مع حقيقة الإنسان كثمرة حبّ بين رجل وامرأة في إطار الزَّواج والعائلة.
* * *
أيُّها الأحبّاء، إنّ قبولنا بمفهوم “الجندر” يعني خراب الإنسان لأنّه يجعله ينقاد إلى حيل إبليس وخداعه بواسطة اللَّذَّة السّاقطة والأفكار الَّتي لا عدَّ ولا حصر لها التّي يخترعها البشر ليزداوا منها. الله خلقنا للفرح، وأعطانا العالم مطرحًا جميلًا نكتشف فيه حلاوة الخالق فننشدُّ إليه ونُبنى بحبّه في الوصيّة لنحقِّق وجودنا بالحبّ.
حين تصير اللَّذَّة مِقياسًا ينتفي الحبّ، لأنّ الحبَّ مشاركة وسعي إلى الوَحدة لعيش الفرح الَّذي هو أسمى من كلّ لذّة والمُتأتّي من انسكاب نعمة الله على الإنسان وسُكناها فيه. والحبّ تضحية، والتَّضحية ألم طوعيّ يولِّد الفرح من خلال التّحرُّر من الأنا عبر البذل. فالحبّ بين الرّجل والمرأة عطاء ذات كلّيّ، وثمرة هذا الحبّ الَّذي هو مسيرة تحرُّر من الأنا دخول في سرّ الآخَر الَّذي يصير هو الـ “أنا”، أو كما تقول الأم مريم زكّا رئيسة دير القدِّيس يوحنّا المعمدان – دُوما، بالحُبِّ يَصير الأنا هو الأنت وهكذا يصرخ الحبيب بحبيبه “يا أنا!… أنت!…”.
الجندرة هي من المُحاوَلات المُستمرَّة لعالم الاستهلاك بجعل الإنسان “حيوانًا اجتماعيًّا” يتحكّمون به عبر تحفيز أهوائه وشهواته ليُسيْطروا عليه فيجعلوه عبدًا لمنتجاتهم عبر تأليهه لذاته من خلال عبادة نفسه وإلغاء الآخَر من حياته كشخص وحاجة وموطن. هكذا يُحارَب الله في الإنسان، هكذا يُنشر الإلحاد باسم الدِّين والحَقّ، هكذا يُغرَّب الإنسان عن حقيقته كصورة لله ليجعلوه على صورة إبليس “رئيس هذا العالم” (راجع يو 12: 31؛ 14: 30 و16: 11)، كما سبق فأوضح الرَّبّ يسوع المسيح في إنجيله إذ قال: “أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ” (يو 8: 44).
اليوم، علينا كمؤمنين أنْ نُحارب هذه الأفكار الغريبة عن حقيقة إيماننا ووَعْينا لإنسانيّتنا كأبناء لله، وأن نحافظ على العائلة ونحصِّن أولادنا عبر تثبيتهم في إيمانهم وتربيتهم على معرفة الله ليتكوّن لديهم الحِسّ النَّقْدِيّ فيميِّزوا الحَقّ من الباطل والصَّالِح من الطَّالح والفاسد من المستقيم…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما