نشرة كنيستي- الأحد (9) بعد العنصرة- العدد 34
25 آب 2024
كلمة الرّاعي
بين استقامة الرَّأي والانحراف عن الحَقِّ الإلهيّ
“وَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ.
وَلكِنَّ النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ.” (2 تي 3: 12 -13)
كيف تعرف أنَّك سالِكٌ في استقامة الرَّأي أي الأرثوذكسيّة؟ حين تكون ممتَلئًا من روح الله. وكيف تعرف أنّك ممتلئ من الرُّوح القُدُس؟ حين تَحيا “ثمر الرُّوح” الَّذي هو “مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ” (غل 5: 22 و23). هذه ليست أخلاقيّات تعيشها، إنّها فضائل النِّعمة الإلهيَّة وصِفاتها، أي أنّها تفترض أنَّك صرْتَ “خليقةً جديدة” (2 كو 5: 17). هذا يعني أنّك لسْتَ بعد تحت النّاموس (راجع غل 5: 18) بل “تحت النِّعمة” (رو 6: 14). “فَمَاذَا إِذًا؟ أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا لَسْنَا تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ؟ حَاشَا!” (رو 6: 15) لكن، للأسف هذا ما نراه اليوم عن عَديدين يَعْتبرون أنفسهم أبناء النِّعمة لكنَّهم يَسْلُكون بِرُوح النَّاموس فيَدينون الآخَرين مُتَّهمين إيَّاهم بالضَّلال في حين أنّهم يسلكون في الضَّلال لأنّهم يأخذون دور الله وينَصّبون أنفسهم قضاة على أرواح النَّاس وخَلاصهم، وهؤلاء يقول لهم الرَّسُول بولس: “لِذلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا!” (رو 2: 1).
* * *
استقامة الإيمان تنبع من استقامة الحياة الدَّاخليّة أي من عَيْش التَّوبة. كيف يستطيع إنسان يريد أن يتوب أن تكون عينيه على الآخَرين وليس إلى داخل قلبه ليرى ما فيه من نَتانةٍ وقذارة لِيَعْمل بنعمة الله على تطهير ذهنه (νοῦς) وكيانه؟!… الفرق بين الشَّهادة لاستقامة الإيمان والانحراف عنها هي بطريقةِ مقاربة الاختلاف مع الآخَر. ليس لك أن تَدين أحدًا أو تحكم عليه لأنّ الدَّينونة لله، لكن من واجبك أن تُسلّط نور الكلمة على الأقوال والأعمال لتفحصها بروح الله وتُبيّن الحقّ من الباطل، وأن تكون منفتحًا على الآخَر لسماعه والحوار معه، لأنَّ غاية الشَّهادة للمسيح كشْفُ الحقّ لخلاص الإنسان وليس لاثباتٍ ذاتيّ أو إدانة الآخَر.
المسيحيّة مبنيّة على المحبّة، لكن أين المحبّة حين تُمْتَهَنُ كرامة الآخَرين وتسعى إلى تَشْويه صورتهم وإلى قتلهم معنويًّا، وهذه خطوة تسبق القتل الفعليّ، باسم الشَّهادة ليسوع؟!… إنَّك بالحقيقة تجعل كلماتك وأقوالك مكتوبةً بدم المسيح الَّذي تصلبه وتطعنه وتُهينه. إنَّك تشوِّه حقّ يسوع المسيح ووجهه إذ تجعله قاتلًا وهو الَّذي قُتِل ظُلمًا ليُحيينا، الدَّينونة هي سلوك بروح شيطانيّة، فالشَّيطان هو الخصم والمعاند والكذّاب وأبو الكذّاب ومصدر كلّ قتل وشرّ وتشويش… ألا تعلم أنّ حربك هي أوّلًا مع ذاتك مع أهوائك وخطاياك؟!… هل أنت طاهِر؟!… هل وصلت إلى اللَّاهوى؟!… هل عرفت نفسك؟!… تُبْ! وارجع إلى نفسك وإلى ربّك! كلّنا خطأة، كلّنا بحاجة أن نتوب “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رو 3: 23).
* * *
أيُّها الأحبَّاء، “إِذْ قَدْ سَبَقْتُمْ فَعَرَفْتُمُ، احْتَرِسُوا مِنْ أَنْ تَنْقَادُوا بِضَلاَلِ الأَرْدِيَاءِ، فَتَسْقُطُوا مِنْ ثَبَاتِكُمْ” (2 بط 3: 17). احترسوا من “الذِّئَاب الخَاطِفَة” (أع 20: 29) الَّتي تأتيكم “بثياب حملان” (مت 7: 15). كثيرون هم ضالّين ويظنّون أنّهم في الحقّ، والَّذين في الحقّ يُحارَبون من الضَّالين. مسيحيّتنا ليست مبنيّة على قوانين بل على “كلمة الله الحيَّة” (1بط 1: 23 وعب 4: 12)، لأنّ القوانين والشَّرائع والنَّواميس لا تخلّص بل المسيح هو الَّذي يخلّصنا بنعمته ورحمته وحنانه كما خلَّص لصّ اليمين (لو 23: 43). كلّ قانون وضعيّ ومرتبط بالزَّمان والمكان والمخالفة، لذلك وإنْ بُنيتْ القوانين على كلمة الله إلَّا أنَّها لا تقوم مقام الكلمة أو تستبدلها، كلمة الله سرمديَّة بروحها وليس بحرفها “لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي” (2 كو 3: 6).
يا أحبّة، “إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ” (غل 5: 25) لأنّه “حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ” (2 كو 3: 17) وحيث الرَّبّ فهناك السَّلام “لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ” (1 كو 14: 33)، والَّذين من الله يزرعون بِرًّا ويثمرون سلامًا بالرُّوح القدس…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما