بيان صادر عن المجمع المقدس
لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
دمشق، 4 نيسان 2020
إلى جميع أبناء كنيستنا الأنطاكيّة الأحباء، إكليروساً ورهباناً وشعباً مؤمناً،
لتحفظكم، أولاً، نعمة ربّنا يسوع المسيح، وليحلّ سلامُه في قلوبكم ضياءً من فجر قيامته، واطمئناناً به إلى الغد الآتي، و”ثباتاً في الإيمان والرجاء” (١ كورنثوس ١٣: ١٣)، وفرحِ الأبناء المُفتَدين، وليسلحكم ويقويكم بمحبّته التي بها، على الصليب، “هُزم آخر عدوّ” لحياتنا فيه إلى الأبد (١ كورنثوس ١٥: ٢٦).
نتوجَّه إليكم اليوم، نحن آباء المجمع الأنطاكيّ المقدّس، بإمامة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، كرعاةٍ لمسيرتكم في المسيح، وسطَ ما يجمع عالمَنا إلى أشدِّ معاناة صحيّة يشهدها منذ بداية القرن العشرين. نتوجّه إليكم حاملين إياكم بالصلاة والدعاء، ومعكم كلّ فردٍ من أفراد عائلاتكم، والعالم أجمع.
أيها الأبناء الأحباء،
تعلمون أنّه قد سبق وألزَمَتنا هذه الظروف بتعليق الخدم الكنسية ودعوتِكم إلى التقيّد بالإجراءات العامّة المتَّخذة في العالم أجمع وملازمة منازلكم. وقد أتت توجيهاتنا السابقة في سياق حرصنا الشديد على السلامة الجسدية والنفسية والروحية لكلّ واحدٍ منكم، وتجسيدِ محبّتنا الإنجيلية، كجماعة، لكلّ أخ لنا في العالم حِفظاً على سلامته، والتزامنا في مجتمعاتنا بما تتّخذه السلطات الرسميّة من إجراءات صوناً لجميع مكوّناتها.
إنّ ما تُشعرُنا به هذه الإجراءات غير المُعتادة، التي أتت وسط مسيرة صومنا المقدّس نحوَ الفصح، من حاجة وشوقٍ إلى قدساتِ ربّنا وإلى تشاركنا معاً التضرّع والصلوات في كنائسنا، لهوَ حقٌّ يحرّكه ما غرسه الربّ فينا من “سرّ” الأبناء. إلا أن كنيستنا، التي شهدت في تاريخها مراحلَ صعبة شرّدت أبناءها وقدّيسيها، بقيت وتبقى مجتمعةً حيّةً متحرّكةً مع هموم شعبها وحاضرةً في صلوات أبنائها الذين يُقيمون في عشرة الكتاب المقدَّس ويكوِّنون بهياكلهم الساجدة ذبيحةً حيّةً على مذبح الربّ أينما وُجدوا.
لذلك، فإنّ أولّ ما ندعوكم إليه هو معالجة هذه المشاعر، والثبات في الفرحِ الإلهي الذي لا تحجبُه المعاناة، بتكثيف صلواتكم اليومية وانكبابكم على قراءة الكتاب المقدّس وكتابات الآباء القديسين وسِيَرهم وعلى كلّ ما يجعل من بيوتكم كنائس صغيرة تنبض القلوبُ فيها بالأدعية، متذكرين أن “ملكوتَ الله في داخلكم” (لوقا ١٧: ٢١). ارفعوا، يا أحبة، بعضكم بعضاً إلى الربّ، وارفعوا العالم معكم بمَرضاه ومُصابيه وفقرائه ومشرّديه ومخطوفيه وضحاياه. ارفعوا علماءه وأطبّاءه وممرضيه المنكبيّن على إيجاد ما يخلّصه من مِحنه. ارفعوا العمال والذين يحافظون على النظافة العامة والساهرين على حفظ الأمن والانضباط وكل الجنود المجهولين الذين يعملون من أجل راحتكم وسلامة المجتمع معرِّضين أنفسهم للخطر من أجل سلامتكم وتأمين لوازم الحياة الأساسية لكم. اذكروا رعاتكم. التفتوا إلى المسيح في المساكين الذين يعانون من صعوبة هذه الظروف، وشاركوهم خبزكم وخيراتكم. حصّنوا ذواتكم من كلّ خوفٍ وهلع لأنّكم أبناءُ من أوجدَ الحياة، وهو القائل: “ثقوا، لا تخافوا أنا معكم طول الأيام” (متى ٢٨: ٢٠). كونوا بذلك الكنيسة الواحدة المُجتمعَة التائقة إلى سرّ الشكر، التي يريدُها الربّ، وتُفرحُه اليوم. واجعلوا من وقتِكم هذا، وقتَ الحَجْر الإلزامي والبقاء في المنازل، صحراءَ توبَةٍ وتوقٍ إلى كلّ شِركة، “وقتاً مقبولاً” يُعمَل فيه للربّ والقريب (٢ كورنثوس ٦: ٢). اختبروا هذه المرحلة على ضوء خبرة الرهبان الذين كانوا يخرجون إلى الصحراء مع بدء الصوم وينصرفون إلى الصلاة والتوبة، لتأجيج الشوق إلى لقيا الإخوة في المسيح القائم.
أيها الأبناء الأحباء،
إضافةً إلى ما سبق، وإلى صلواتنا من أجلكم ومن أجل العالم، نواكب في هذه الأوقات والظروف ما يطرأ من تطوّرات تتعلّق بالوباء الذي يهدّد الحياة الإنسانية اليوم. وبعد الاجتماع إلى بعضنا، بالتواصل والتشاور فيما بين غبطة البطريرك وجميع السادة المطارنة، خاصةً في ظلّ قربِ حلول الأسبوع العظيم المقدّس والفصح المجيد، وأمام ما تُرخيه هذه المحنة الصعبة من مآسٍ وتداعيات، نعلمكم بما اتخذناه من مقرراتٍ وتوجيهات:
أولاً: التأكيد على ضرورة الالتزام التام بالإجراءات المتّبعة والتي تدعو إليها السلطات الرسمية والمُختصّة بمكافحة الوباء وانتشاره، بما فيها البقاء في المنازل، مختبرين سر العائلة كفرحٍ للحياة.
ثانياً: دعوة المؤمنين في جميع الأبرشيات، إكليروساً ورهباناً وعلمانيين، إلى التعاون التام مع الجهات المختصّة، الرسمية والصحية، في كلّ ما يقدّم العون ويخدم أمنَ المجتمع الصحّي وسلامَه الاجتماعي.
ثالثاً: تُقام الخدم والصلوات أثناء الأسبوع العظيم المقدّس ويوميّ الشعانين والفصح المجيد (19 نيسان) من قبل الكهنة والرهبان فقط في الكنائس والأديار، من أجل جميع الشعب وسلام العالم أجمع. أي تُقام والأبواب مُغلقةٌ، دونَ مشاركةِ أيٍّ من المؤمنين. مع تفعيل إمكانية البث المباشر للصلوات اليومية عبر المواقع الإلكترونية التابعة للكنيسة، ومتابعة المؤمنين لها من منازلهم.
رابعاً: نُصلّي لكي تسمح الظروف، وبرحمات الله، أن نحتفل معاً بالخدمة الفصحية في يوم وداع الفصح في 27 أيار2020، حيث تُتَمّم الخدمة الفصحية بكاملها وبمشاركتنا جميعاً، علَّنا نكون قد انتصرنا على الوباء وعادت دورة الحياة إلى طبيعتها. ومنعاً لأي التباس فإن الصوم الأربعيني المقدس ينتهي الساعة الثانية عشرة من منتصف ليل السبت/ فجر الأحد 19 نيسان.
خامساً: تَجنُّد الرعاة ودعوة جميع المؤمنين ومجالس الرعايا والهيئات الكنسية والجمعيات والأخويات إلى التعاضد والتآزر في كلّ ما يُعين ويدعم المحتاجين ويُخفّف المعاناة عن المُصابين وعائلاتهم.
سادساً: تُصلّي الكنيسة لكي يتحنّن الربّ على خليقته، ويرفع عن عالمنا هذه المحنة الصحيّة، ويقوّي الفرق الطبيّة والتمريضية والمُسعِفة والخادمة في المستشفيات والمجتمع، ويحفظها من كلّ مكروه، ويَشفي كلّ مريض، ويرحم كلّ فقيد، ويُلهم جميع المُختصّين والأطباء والعلماء إلى ما يحمي الحياة والكون ويحفظهما من الأوبئة والشرور.
سابعاً: اتُّخذت هذه الإجراءات وفقاً للمعطيات والتطورات الأخيرة، مع رجائنا أن تقصَّر هذه الأيام وتعود الحياة إلى دورتها الطبيعية.
ثامناً: مع قبولنا لتنوّع الآراء واختلاف الأفكار في مقاربة هذه الشؤون، فإن ما سبق ذكره من مقرّرات وتوجيهات يعبّر عن الموقف الرسميّ للكنيسة الأنطاكيّة. وعليه، فإن كل مخالفة له تشكل مخالفة صريحة لموقف الكنيسة لا تُسأل السلطاتُ الكنسية عن تبعاتها المدنية.
أيها الأبناء الأحباء،
ونحن نتضرّع ونرجو أن تعبر هذه المحنة عن العالم أجمع، وألا تُصيبنا من جرائها أيّة صعوبة وشدّة ومعاناة. نشدّدكم بالربّ شاخصين معكم إلى فرحِ ما بعد هذه العاصفة، إلى يوم مساهمتنا بعالمٍ جديد يُبزغ علينا فجراً من الاطمئنان والاستقرار والتعاضد والفرح والبهاء في كنفِ حماية ربنا. فعلى هذا الرجاء ندعكم في حمايته راجين أن تثبتوا في صلواتكم، لكي نعبر معاً هذه المرحلة دون أن تترك فينا ألماً وجرحاً غير الشوقِ إلى جسد المخلّص ودمه.