نشرة كنيستي- الأحد (2) من الصَّوم (القدّيس غريغوريوس بالاماس)- العدد 13
31 آذار 2024
كلمة الرّاعي
بعض حول نعمة الهدوئيّة وخبرة الصَّلاة القلبيَّة بحسب القدِّيس غريغوريوس بالاماس
القدِّيس غريغوريوس بالاماس، الَّذي نعيّد له هذا الأحد، عامود من أعمدة الكنيسة كونه أوضح بشكلٍ جَلِيّ تعليم الكنيسة وآبائها حول سرّ الله واتّحاد الإنسان به من خلال النِّعمة الإلهيّة. بالنِّسبة له لا تأتي معرفة الله من العقل بل هي عطيَّة النِّعْمَة الإلهيَّة. طريق الهدوئيَّة هو السَّبيل لتفعيل نعمة المعموديَّة واختبار عمل الرُّوح القدس من خلال القوى أو الطّاقات الإلهيَّة الَّتي يشترك بها الإنسان عبر الصَّلاة القلبيَّة. وقد اعتمد القدِّيس غريغوريوس، في مواجهته لبرلعام الكالابري، على أهميَّة الصَّلاة القلبيَّة والهدوئيَّة للدُّخول في خبرة معاينة الله. وأوضح التَّمييز بين الجوهر الإلهيّ والقوى الإلهيَّة، فالجوهر الإلهيّ غير قابل للمعرفة وللاشتراك فيه، بينما الطَّاقات الإلهيَّة يشترك فيها الإنسان ويقتنيها بالنّعمة. بالنَّعمة يتألَّه الإنسان أي يصير شبيهًا بالله مُشارِكًا صفاته وقواه دون جوهره الإلهيّ.
* * *
اشترك القدِّيس غريغوريوس لبعض الوقت في حلقة روحيَّة هدوئيَّة كان يقودها إيسيدوروس أسقف تسالونيكي، بطريرك القسطنطينيَّة العتيد، وأحد تلامذة القدِّيس غريغوريوس السّينائيّ. هدفت هذه الحلقة إلى تعليم الحياة الهدوئيَّة لعامة المؤمنين والسَّعي إلى نشر ممارسة صلاة الرَّبّ يسوع بين النَّاس كونها الأداة لتفعيل نعمة المعموديَّة.
الهدوئيَّة (hésychasme) أساسها صلاة اسم يسوع، “ربّي يسوع المسيح ارحمني”، وهي تعود تاريخيًّا للقرون المسيحيَّة الأولى، “لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ (غير اسم يسوع المسيح) تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ” (أع 4: 12) وأيضًا “تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ” (في 2: 9 – 10). عَرَفَتْ الهدوئيَّة تجدُّدًا وانطلاقة قويَّة في القرن الرَّابع عشر، في قلب الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وجبل آثوس، وحدث لذلك جدل حولها، وقد كان للقدِّيس غريغوريوس بالاماس الدُّور الأهمّ في إيضاح لاهوت وحقيقة الخبرات النّاتجة عنها في معرفة الله والاتِّحاد به.
في هذا الإطار، يكتب القدِّيس يوحنَّا السلَّميّ في كتابه “السُّلّم إلى الله”: “الهدوئيّ هو ذاك الَّذي يقول: أنا أنام لكن قلبي يقظ” (درجة 27: 18؛ راجع أيضًا نشيد الأنشاد 5: 2)، أي هو الَّذي يردِّد الصَّلاة بلا انقطاع (راجع 1 تس 5: 17). منذ القرن السّادس، صارت الهدوئيَّة المربوطة بترداد اسم الرَّبّ يسوع أساس حياة الرَّاهب، إذ يكتب القدِّيس يوحنَّا السَّلَّمي، “تسلَّحْ بالصَّلاة واجلدْ أعداءَكَ (الشَّياطين) باسم يسوع” (درجة 20: 7). ثمرة هذه الصَّلاة الهدوئيّة هي معاينة الله في النّور غير المخلوق أي الاتّحاد به…
* * *
أيُّها الأحبّاء، ما أحوجنا في هذا الزَّمن إلى العودة إلى خبرة الهدوئيَّة في عصر تتسارع فيه عجلة الحياة بشكلٍ رَهيب يجعل الإنسان لاهثًا كلّ الوقت ويحاول اِلتقاط أنفاسه نظرًا لركضه المتزايد وراء الاستهلاك. السُّؤال هل الهدوئيّة ممكنة في حياتنا اليوميَّة؟ يُروى عن والد القدّيس غريغوريوس بالاماس أنَّه كان يتعاطى الصَّلاة القلبيَّة ويغيب عمّا حوله حتّى في محضر الإمبراطور. وقد كان يحدث أن يطرح عليه الإمبراطور أندرونيكوس سؤالًا فلا يُجيبه لأنَّه كان غارِقًا في صلاته. نسوق هذا المثل لنقول أنّ المسألة في عيش خبرة الهدوئيّة والصَّلاة القلبيَّة ترتبط بمشيئة الإنسان ورغبته، وإنّها متاحة للرُّهبان وللعامّة من المؤمنين.
حتّى نكون عمليّين، ونستفيد من صومنا الحاضر، على كلّ من يريد أن يختبر الصَّلاة القلبيَّة وثمارها من سلام القلب والفرح تخصيص وقت للخلوة في بيته حتّى يصلِّي في الهدوء، “وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً” (مت 6: 6). بداية، عليه أن يضبط فكره ويضع نفسه في جوٍّ روحيّ عبر القراءة والتَّأمّل في مقطع من الكتاب المُقدَّس. ثمّ يقرأ في كتاب روحيّ لفترة قصيرة. بعد ذلك، فليجلس على كرسيّ وليردِّد صلاة الرَّبّ يسوع: “ربّي يسوع المسيح ارحمني” بكلّ تانٍّ وبصوتٍ خافتٍ لمدَّة ربع ساعة على الأقلّ. وإذا وجد أنّ الصَّلاة فيه منطلقة فليستمرّ على هذا الحال على قدر ما يستطيع. أمّا إذا وجد صعوبة في التَّركيز والتَّرداد فليغصب نفسه على ترداد الصَّلاة للمدَّة المحدَّدة وليُثابر دون يأس. طبعًا، على الإنسان أن يعرف خطاياه ويتوب عنها. ألم التَّوبة يحرّك القلب الصَّادق في الصَّلاة. بداية الصَّلاة توبة، وبداية التَّوبة صلاة. وكلاهما يقود إلى التَّطهُّر، والتَّطهُّر يقود إلى معاينة الله لأنّ الرَّبّ قال: “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت 5: 8)…
طبعًا، من المهمّ جدًّا أن نؤكِّد على ضرورة ان يكون لكلّ مؤمن أب معرّف ومرشد روحيّ صاحب خبرة ليمسك بيده ويقوده في طريق خبرة عيش الحياة مع الله، بعامة، ووُلوج خبرة الصَّلاة القلبيَّة الهدوئيَّة…
ومن استطاع أن يقبل فليقبل…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما