نشرة كنيستي- الأحد (22) بعد العنصرة- العدد 46
13 تشرين الثّاني 2022
كلمة الرَّاعي
المَسير إلى الولادة في المسيح
تمنحُنا الكنيسة المُقَدَّسَة فُرَصًا عَديدَةً للتَّجدُّد الرُّوحيّ من خلال المَسيرة اللِّيتورجيَّة الَّتي قمّتها وجوهرها الفصح. لذلك، كما أنَّ التَّحضير للفصح يصير بالصِّيام الكبير كذلك وضعت الكنيسة من خلال خبرتها الطّويلة في التّقديس والقداسة أصوامًا عديدة ترفعنا بها في المعرفة الرُّوحيّة وتقودنا إلى خبرة القداسة من خلال الأعياد الَّتي حدَّدتْها.
عيد الميلاد القادم علينا هو عيدُ كَشْفِ سرّ التّجسُّد الإلهيّ للبشر، إذ استُعلن حضور الله طفلًا للنّاس حين ظهر الملائكة على الرُّعاة مُبَشِّرين إيّاهُم وقائلين: ”الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ“ (لوقا 2: 14).
صوم الميلاد الَّذي يمتدّ على أربعين يومًا من الخامس عشـر من تشـرين الثَّاني إلى الخامس والعشرين ومن كانون الأوَّل هو رحلتنا نحو الولادة الجديدة بطفل المغارة وإله التّواضع الأقصى الَّذي ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ“ (فيليبي 2: 7) لكي يرفع النّاس إلى شبه الله.
* * *
قد يستثقل النّاس كثرة الصّيام في الكنيسة، ويعتبرون أنّ الصَّوم عبئٌ عليهم، لكن مَنْ عرف خبرة الصِّيام في عمقها الحقيقيّ يدخل في حقيقة أُخرى من تعاطيه الوجود، لأنّه ”بالصّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم“، ومَنْ يهرب مِنَ الصَّليب الطَّوعيّ أي الجهاد الرّوحيّ بالصَّلاة والصَّوْم يتحمّل الصّليب القهريّ الَّذي تجلبه عليه الخطيئة.
من هنا، الصَّوْم مع الصَّلاة هما حاجة جوهريّة للمؤمن الجِدِّيّ في سعيه للحياة الأبديّة عبر تقديس حياته اليوميّة. إنْ لم تسعى لعيش القداسة في يوميّاتك فأنْتَ لَسْتَ طالِبًا لها. وما قيمة حياتك ومعناها إنْ لم تتقدَّس؟!…
أن نضبط أنفسنا في الأطعمة والأشربة، أن نتوقّف عن تناول مآكل معيّنة، أي الزَّفرَيْن، هذه كلّها وسائل مساعِدَة لنا في طلبنا للحرّيّة، حرّيّة أبناء الله (راجع رومية 8: 21)، ولا حرِّيّة إلَّا بروح الرَّبّ، ”وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّة“ (2 كورنثوس 3: 17).
* * *
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم الَّذي نعيّد له اليوم (13 ت1) عاش النُّسْك الكبير فتَخَلَّى حتّى عن علومه الدُّنيويّة الّتي كانت له أرقى ما تطلبه نفسه، لأنّه عاش قول الرَّسُول بولس: ”إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ“ (فيليبي 3: 8—9).
هذه هي روح الصِّيام الحقيقيّة أن يكون الإنسان مستعدًّا أن يتخلّى عن كلّ شيء ليربح المسيح، أن يكون طالبَه في كلّ حركة نفس وفي كلّ عمل وفي كلّ هدف.
نحن لا نصوم لنُرضي الله، لأنّ رضى الله علينا لا يتأتّى من صومنا بل من موتنا عن عتاقتنا وولادتنا الجديدة فيه بالتّوبة. من هنا، لا صوم دون توبة كما أنّه لا صلاة دون توبة. التّوبة هي روح الصَّوْم وغايته لأنّها هي الولادة الجديدة بمعموديَّةِ غسل الدُّموع وتطهير ماء الرّوح المتنزّل على الإنسان في الصَّلاة الحارّة القلبيّة العميقة…
* * *
أيّها الأحبّاء، ها زمنُ توبةٍ ها زمنُ جهاد ها زمن فرح وها زمن سلام ومصالحة…
ليكن صومنا الاستعداديّ لميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد زمن بركة لنا، بسعينا الحثيث لعِشْرَةِ الكلمة الإلهيّة وطرق أبواب قلوبنا بالصَّلوات اليَوْميّة وبالهذيذ باسم الرَّبِّ يسوع.
تعالَوا نتذوَّق حلاوة الرَّبّ، ”ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ“ (مز 33 (34): 8). الثّقة بالله تُنشِئُ سلامًا وطيدًا في القلب وراحة وفرحًا. ليكن هذا الزّمن زمن تأمّل في حياتنا وأهدافها، في طريقة عيشنا ومتطلّباتها، في علاقاتنا وصعوباتها المتولِّدة بسبب ضعفنا، في محبّتنا وترجمتها مع الله والآخَر…
يسوع صار إنسانًا ليأتينا في كلّ إنسان طالبًا حبّنا لكي يهبنا حبّه الإلهيّ… ”نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلً“ (1 يوحنا 4: 19)، هو دائمًا المبادِر، هو من يطلبنا، هو من يبحث عنّا ليجدنا حين نفتح له قلوبنا.
لنبحث عنه في خليقته لأنّه دائمًا آتٍ ليُنيرَ طالبيه ويَهَبَهُم الوِلادة الجديدة في فرح براءة محبّة طفل المذود الإهيّ…
هل من عارف طالب الله؟!…
من له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما