Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد 14 من لوقا (الأعمى)- العدد 4

24 كانون الثّاني 2021      

كلمة الرّاعي 

المكرَّسون للرَّبّ

”وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًامُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ“ (يوحنّا 17: 19)

القداسة ليست شيئًا آخَر غير المحبَّة، لأنَّ ”الله محبَّة“ (1يوحنَّا 4: 8 و16) والله ”قدُّوس“ (أنظر مثلًا لاويين 11: 44). قداسة الله تجلَّت لنا في سرّ حبّه اللّامتناهي بتجسُّد الكلمة الابن ”المولود من الآب قبل كلّ الدُّهور“ من ”الرّوح القدس ومن مريم العذراء“. المحبَّةُ كما تكشَّفت لنا هي الإفراز الكلّيّ أو التّكريس الكلّيّ للذَّات في طاعة الله أي في محبّته، ومحبّته ليست سوى محبَّة الأخ أي التّكرُّس لخدمة الله فيه، كون الله لا يحتاج منّا شيئًا ولكنّه جعل نفسه محتاجًا لنا لأجلنا لكي نخدمه هو في الأخ في الآخَر، إذ ”لَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا“ (1يو 4: 21؛ راجع متّى 25: 31—46).

لا قداسة إلّا في الحقّ، أي لا تكريس للذّات إلّا في استقامة الحياة بطاعة الوصيّة الإلهيّة في الأمانة الكلِّيَّة، لئلّا يحصل الإنسان عبدًا للبشـر أو لأهوائه فيهم أو لأهوائهم فيه.

من هنا، الرَّبُّ يسوع ”قدَّس“ ذاته لأجلنا بالحبِّ والحقّ، إذ بذل ذاته عنَّا وحمل خطايانا الّتي أماتها على صليب حبِّه اللّامتناهي شهادة للحقِّ الَّذي هو هو، إذ استعلن لنا حينها ديَّانًا لسـرِّ الإثم وإبليس وزبانيّته وأتباعه وفاتحًا لنا ملكوت القداسة منذ الآن فيه وعبر الاتّحاد به بتسليمه حياتنا حبًّا، لأنّه ”إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاللهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا“ (1يو 4: 12).

قداسة الله تجلَّت في أحبّائه وأخصّائه الَّذين كرَّسوا ذواتهم له في استقامة جهاد النُّسك والتّوبة والإيمان والمحبَّة. هؤلاء هم القدّيسون، إنَّهم مَنْ عرفوا أنّ المسيح هو الحياة وأنّ الموت عن العالم لأجل الرَّبِّ وطاعته وخدمته هو ربح (راجع فيليبي 1: 21).

*          *          *

في هذا الأسبوع القادم علينا، نعيِّد لثلاثة قدّيسين لمعوا بالنّسك والجهاد المقدَّس والعلوم البشريّة والدّفاع عن الإيمان القويم وإيضاحه وخدمة الإنسان، عنيت بهم الأقمار الثّلاثة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللّاهوتيّ صديقه وتوأم روحه ويوحنَّا الذّهبي الفمّ أعظم واعظ في تاريخ الكنيسة. هؤلاء صاروا نبراسًا واحدًا يسطع بأشعة الحقّ الإلهيّ المستَعلَن في العقيدة وخدمة مذبح الأخ. لا تنفصل العقيدة عن عيشها، ولا تستقيم خدمة إلَّا في استقامة الإيمان. هذا يفترض تضحية دون شروط وإخلاء ذات دون قيود، انطلاقًا من التّتلمذ للرَّبّ في طاعة كلمته الإلهيَّة وحمل صليب حبِّه…

القدّيسون الثّلاثة كانوا من عائلات غنيّة بالأموال والأملاك، ولكنّ غناهم الكبير كان بالإيمان، إذ تركوا كلّ ما في العالم مقتدين ببولس الرَّسول الذّي قال: ”إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ“ (فيليبي 3: 8). لقد تحمّلوا وكابدوا الظّلم والاضطهادات ولكنّهم ثبتوا في الحقّ حتّى النّهاية فتقدَّسوا وقدّسوا ذاتهم لأجل كنيسة المسيح.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، في هذا الزَّمن، نحن بحاجة إلى قدِّيسين، أي إلى من يكرِّسون حياتهم كلَّها للرَّبِّ في خدمة المحبَّة للأخ. هؤلاء من تحتاجهم الكنيسة اليوم لكي يسطع نور الحقّ في يوميّاتها. نحن بحاجة إلى من يتركون كلّ شيء لأجل المسيح شبّانًا وشابَّات، ليكونوا خميرًا جديدًا يخمِّر العجين كلّه. ”إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا“ (1كورنثوس 5: 7).

اليوم تحتاج الكنيسة إلى ”مجانين“ بمحبّة الرّبّ، كما كان الرُّسل والقدّيسون، إلى من يطلبون نقاوة القلب في المحبَّة والعفَّة في السّلوك والتّوبة لاقتناء الملكوت والفرح في الخدمة والأمانة في الشّهادة والتّخلِّي الكلّيّ عن كلّ ما للذّات لأجل مجد الرّبّ في كنيسته، وإلى مَن ينادون باسم الرَّبّ لكي يعطي النّاس مجدًا لله (راجع تثنية 32: 3)…

الكنيسة، اليوم، تحتاج إلى من يريد أن يتبع المسيح في تكريس ذاته للقداسة بالتّسليم الكلّيّ لحياته في طاعة ”الكلمة الإلهيّ“ لكي يتقدَّس الَّذين حوله … هكذا فعلة في كرمه يطلب الرَّبّ، من يصحّ فيهم قوله: ”رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّـرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ …“. هذه رسالة الكنيسة اليوم وفي كلّ يوم، فهل من يستجيب دعوة الحبّ الإلهيّ؟! …

ومن له أذنان للسّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة