نشرة كنيستي- الأحد (2) بعد الفصح (حاملات الطّيب)- العدد 20
19 أيّار 2024
كلمة الرّاعي
المرأة مرآة الخدمة في الحبّ
”يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟“ (يوحنّا 20: 15)
المرأة كتلة مشاعِر بِطَاقَةٍ لا نهائيّة في الحبّ أو في الكره، هذا بسبب السّقوط، لكنّها مرشّحة وقادرة أكثر من الرّجل على أن تصير كلّها حبًّا إلهيًّا لأنّها تعرف سرّ الوحدة في التّمايز في كيانها، إذ هي مُعطاة أن تحمل في أحشائها آخَر مختلف عنها وواحد معها ومنفصل عنها في آن معًا. الأمومة في المسيح هي كشف سرّ الحبّ الإلهيّ خدمةً وعطاءً وبذل ذات كلّي في رجولة الإيمان والجهاد والثبات.
هكذا، حاملات الطّيب تَبِعْنَ الرَّبَّ في كلّ مسيرة بشارته وحتّى الصَّلب والدّفن، ولذلك، أُعطينَ امتيازًا على الرّسل أن تعاينَّ، أوَّلًا، الرّبّ القائم من بين الأموات.
* * *
الحبّ الطّاهِرُ، في طبيعته، لا ينسجم مع منطق العالم ومقاييسه وأحكامه، لأنّه امتداد دائم بواسطة إخلاء الذّات نحو المحبوب في حركة خروج من الذّات لاستقبال المعشوق في الكيان حياةً ووجودًا ومالئًا للقلب…
من هذا الحبّ الَّذي كان يتولَّد بالنِّعْمة في قلوب حاملات الطّيب نحو الرّبّ يسوع والَّذي كان يتطهَّر بالكلمة الإلهيَّة ومرافقتهنّ له، انبعثَتْ خدمتهنّ له ولمن معه فرحًا بالعطاء والتّعب، بلا تأفُّف ولا تذمُّر ولا ”تَرْبِيح منِّيَّة“، إذ كانت هذه الخدمة هي بركة حياتهنّ الَّتي لا تُقدَّر بثمنٍ.
بدون الحبّ لا فرح ولا إمكانيّة لتحمُّل مشاقّ حياة الخدمة والبشارة. الحبّ النّقيّ هو ثمرة النّعمة الإلهيَّة المتنزِّلة على الإنسان إذا ما جاهد بصدق ومثابرة ومعرفة لكي يكون مرضِيًّا للمسيح. بعِشْرَةِ الله نتعلَّم محبّته، وبمحبّته نتعلّم طاعته، وبطاعته نتعلّم صنع مشيئته، وبصنع مشيئته نحقِّق معنى وجودنا.
* * *
لا حبّ بدون حنان، والحنان يُطهِّرُ الكيان من الشّهوات والأهواء إذا كان منبثِقًا من فعل النّعمة الإلهيَّة في قلب الإنسان. من هنا، الإنسان قلب هو، والمرأة هي قلب القلب إذا كانت للمسيح لأنّها، حينذاك، تحمل في كيانها سرّ الحبّ المُخْصَب بالكلمة الإلهيَّة الَّتي تجعلها متطهِّرة من كلّ شهوة تسلُّط أو تملُّك أو استئثار إذ يكون فرحها أنّها تحمل في أحشائها، في المسيح، كلّ إنسانٍ في المحبَّة بالخدمة والعطاء وبذل الذّات.
النّسوة حاملات الطّيب يخبرنا الإنجيل عن الأكثر شهرة بينهنّ كـمريم المجدلية ”وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ“ (لوقا 8: 2—3)، تبعن يسوع وتنقَّت قلوبهِنّ بكلمة قدرته الَّتي كنّ يغتذين بها في مرافقتهنّ له في بشارته من خلال شخصه وحياته. لقد كنّ مساهمات في بشارة الرَّبّ عبر اهتمامهنّ بحاجات المعلّم وحاجات التّلاميذ الَّذين كانوا معه، إذ أعطوا كلّ ما لديهنّ ولم يبخلن عليه بشيء كونهنّ صنعن كباقي التّلاميذ حين تركوا كلّ شيء وتبعنه (متّى 19: 29)، لأنّهنّ وجدن لديه ”كلام الحياة الأبديَّة“ (يوحنا 6: 68).
* * *
أيُّها الأحبَّاء، منذ العهد القديم ومع الرَّبّ يسوع المسيح والرُّسُل وما بعد الرُّسُل ودَوْمًا، للمرأة في الكنيسة دور جوهريّ وأساسيّ: هي أمّ. أمومتها سرّ قداستها وقداسة من حولها، لأنّ الأمومة مع الإيمان والتّقوى وطاعة الوصيَّة هي كشف لسرّ الحبّ على الصَّليب، صليب التّضحيّة والبذل والكدّ والتّعب في فرح قيامة الخليقة الجديدة بالمسيح في ولادة الإنسان على صورة المخلِّص.
المرأة شريكة في خدمة الرّبّ منذ البدء، وتحقيق مشيئته في العالم. كان لها أدوار قياديّة في شعب الله منذ العهد القديم كمريم النبيّة أخت موسى كليم الله أو كدبورة القاضية وغيرهن كثيرات. أمّا مع الرّبّ يسوع فقد رافقنه في البشارة والآلام والصلب والدفن غير آبهات بالمخاطر والمخاوف البشريّة لأنّ محبَّتهنّ له كانت تطرد عنهنّ كلّ خوف خارجًا (راجع 1 يوحنا 4: 18)، ولذلك استأهلنّ أن تكنّ أوّل من يعاين الرّبّ القائم وأن تكرزن للرّسل بالقيامة. وفي زمن الرّسل كنّ يجاهدن مع الرّسل في نقل بشارة الإنجيل (راجع، مثلًا، فيليبي 4: 2—3) وفي خدمة المحتاجين والأرامل والفتيات والنّساء والتّعليم. هذه كانت رسالتهنّ الشّموسيّة الّتي تبنّتها الكنيسة وكرّستها على مدى أربعة عشر قرنًا قبل تختفي بسبب الاحتلال العثماني.
اليوم، ما زالت المرأة المؤمنة قادرة ومطلوب منها، بالأكثر، أن تخدم الرّبّ في كنيسته في التّعليم والرِّعاية للمحتاجين وتعزية المتألّمين والمهمَلين والمتروكين وفي بثّ روح التّقوى والإيمان لدى الأمّهات والفتيات وفي العائلات… لا يكتمل العمل البشاريّ والرّعائيّ والشّهاديّ في الكنيسة بدون أن تضطلع الفتاة والمرأة المؤمنتان بخدمة المحبَّة وعيش الكلمة الإلهيّة في اقتفاء آثار قدمي الرّبّ يسوع في كنيسته وفي العالم للبرّ والقداسة في اقتناء الحبّ النّقيّ بجهاد الطّاعة للرَّبّ المتجسِّد والَّذي صُلب وتألّم ومات وقام من أجل حياة العالم…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما