نشرة كنيستي- الأحد (4) بعد الفصح (السّامريّة)- العدد 21
22 أيّار 2022
كلمة الرَّاعي
الماء الحيّ والحياة الجديدة
”مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ
إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ
مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ“ (يو 4: 14)
بدون ماءٍ لا حياة. من هنا فالماء رمز الحياة. ولكن أن يصير الإنسان نفسه نبع ماء أبديّ فهذا يعني أنّه صار مصدرًا للحياة الأبديَّة، ليس أنّه هو مصدر النّبع بل الله هو الَّذي يجعله نبعًا ناقلًا للمياه الإلهيّة أي لنعمة الرُّوح القدس.
الإنسان في أعماقه عَطِشٌ إلى الله. كثيرون لا يفهمون ما الَّذي يفتقدونه في حياتهم وما الَّذي يبحثون عنهم ليجدوا فرحهم وسعادتهم، هذا لأنّهم لا يعرفون من هو الإنسان. لا أحد يعرف الإنسان كما يعرفه المسيح (راجع يو 2: 24 و25)، لذلك من يريد أن يعرف الإنسان في سقوطه وفي تجليّه عليه أن يتعلّم من المسيح الَّذي يخبرنا كلّ ما يختصّ بالإنسان في تعاليمه وحياته.
ما يروي الإنسان هو الحبّ الإلهيّ لأنّه سرّ تحقيق الإنسان لِسِرِّه في الله. الإنسان لا يعرف نفسه إنسانًا ما لم يختبر سرّ الحبّ أي سرّ خروجه من نفسه تجاه الآخَر الَّذي يحبُّه. وصيّة الله واحدة وواضحة: ”الوصيَّة الأولى تحبّ الرَّبَّ إلهك من كلّ قلبك وفكرك وذهنك وقدرتك والثّانية مثلها تحبّ قريبك كنفسك“، لذلك لا يرتوي عطش الإنسان إلى حقيقته الدّاخليّة أو إلى ”إنسان القلب الخَفيّ“ ما لم يَخْبَر سرّ محبّة الله ومحبّة القريب.
* * *
يقول القدّيس سلوان الآثوسي: ”كلّما اكتمل الحبّ، اكتمَلَت معه معرفة الله“. والحبّ لا يكتمل إلّا بنعمة الله أي بعطيّة الرُّوح القدس للإنسان الّتي تتجلَّى في علاقات الإنسان مع الإنسان اليوميّة. بحسب القدّيس سلوان، يُدرِّب الرُّوح القدس الإنسان على محبّة الله والخليقة بأسرها، وفي هذا الإطار يقول: ”إنّ اختبار الرّسل للرُّوح القدس، عندما نزل عليهم بألسنة ناريّة، علَّمَهُم معنى محبّة الله، ومحبّة الإنسان“.
ما لا يحبّ الإنسان أخاه فهو لا يحبّ الله حتّى وإن كان ممارسًا لشعائر الإيمان وطقوسه وحتّى لو كان يعلّمه. من لا يحبّ لا يعرف الله… ومن يعرف الله لا يمكن إلّا أن يحبّ أخاه الإنسان. هذه من ثمار سُكنى روح الرَّبّ في الإنسان وعلاماتها. يقول القدِّيس سلوان في هذا الخصوص: ”طوبى للنَّفْس الَّتي تحبّ الإخوة، فإنّ أخانا هو حياتنا. طوبى للنَّفْس الَّتي تحبّ أخاها، فروح الرّبّ يحيا ويتجلّى فيها، ويُنِعم عليها بالسَّلام والبَهْجَة“. هذا هو الطّريق للسَّعادَة الأبَدِيَّة لأنّ الرُّوح القدس هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، وهو السّاكِن والفاعِل في المؤمن مِنَ الآن وإلى الأبد.
* * *
الرّبُّ يريد أن يعطينا الماء الحَيّ، يريدنا أن نشرب هذا الماء وليس أيّ ماءٍ آخَر. مَنْ لا يشرب ماء المسيح أي تعاليمه ووصاياه لا يسكن فيه الرُّوح القُدُس نبع الماء الحَيّ الَّذي إنْ سكن في إنسانٍ فاضَ مِنْهُ لأنّه لا يحتمل الرّكود بل هو متحرِّك دومًا لنقل ”الكلمة“ (Logos) بالمحبّة الَّتي هي إيّاه متجسِّدًا بكلماتِ (Logoi) أفعالٍ حيَّة بروحه تكشف حضور الله في الإنسان وأنّه صار ملكوتًا فيهذا العالم يكشف ملكوت الدَّهر الآتي، ملكوت الحبّ الإلهيّ.
أتريد أن تعرف إذا كنت ممتلئًا من روح الرّبّ أم لا؟ المقياس بسيط ويوضحه القدِّيس سلوان بقوله: ”إذا وجدتم في أنفسِكم رحمةً تُجاه النّاس، ومحبّةً تجاه أعدائكم (…) فهذا يشير إلى حلول الرُّوح القدس فيكم (…) من اقتنى الرُّوح القدس في ذاته، يتلهَّف على النّاس أجمعين“.
الحياة الأبديّة الّتي نحن مدعوّون إليها هي حياة شركة ووَحدة، شركة مع المسيح ومع الرُّوح القدس وشركة بيننا نحن المؤمنين، إنّها سرّ اتّحادنا ببعضنا البعض بالمسيح في الرُّوح القدس بحسب مَسَرَّة الله الآب.
* * *
أيُّها الأحبّاء، من يشرب من الماء الَّذي يُعطينا إيّاه المسيح أي من نعمة الرُّوح القدس يتصرّف على مثال المسيح ويسلك وراءه حاملًا صليب الحبّ والغلبة والفرح الأبديّ. من اقتنى الماء الحَيّ أي روح الرّبّ صار قريبًا للجميع واحدًا معهم، هذه حال الآباء الرّوحيِّين الحقيقيِّين الَّذين حين يرى الإنسان أحدهم يرتاح قلبه وينفتح تلقائيًّا ويشعر أنّه لا مسافات تُبعده عنه ولا ما يمنعه أن يكشف ما يجول في دواخله، مهما كانت الاختلافات بينهما سواء باللّغة أو الثّقافة أو المستوى الاجتماعيّ أو الخلفيّة الثّقافيّة إلخ. هذه هي عنصرة المؤمن الدّائمة والتّكلّم بالألسنة على المستوى الرّوحيّ، إنّها لغة القلوب المملوءة من الماء الحيَّ الفائض منها للحياة الأبديّة في الَّذين يتلقّفونها.
روح الرَّبّ حين يسكن الإنسان يرى الخليقة بأسرها بعينيِّ الله في أبديّة المشروع الإلهيّ لخليقته بالخلاص في المسيح لكلّ ما برأه الرّبّ من منظور وغير منظور. هذا ما تكشفه لنا خبرة القدِّيس سلوان الآثوسيّ الَّذي بعد أن عاين المسيح انفتحت صلاته على البشريّة والخليقة كلّها فتضرّع إلى الرَّبِّ قائلًا: ”أيّها الرَّبُّ الرّحيم، أتوسَّل إليك من أجل شعوب الأرض كلّها لكي يعرفوك بالرُّوح القدس (…) ولكي تعرفك أمم الأرض كلّها بالرُّوح القدس وتسبِّحك“. ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما