نشرة كنيستي- الأحد (4) بعد الفصح (السّامريّة)- العدد 20
18 أيّار 2025
كلمة الرّاعي
الكرازة والمُعايَنَة
“إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ” (يو 4: 42)
الإنسان يحتاج أنْ يَلمُس بحَواسِه ليؤمن. لكنَّ المُعايَنَة واللَّمس يأتيان بعد الإيمان. الإيمان يأتي أوَّلًا ويَليه المُعايَنَة واللَّمس. هذه مشكلة الإنسان لأنّه ما لم يَلمس لا يُؤمن، “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ” (يو 20: 25). المشكلة الأكبر أنّ الإنسان وإنْ عايَنَ ولمَسَ قد لا يُؤمِن بل يُشَكِّك ويحاول أن يجد تفاسير منطقيَّة وعقليَّة لخُبراته، هذا لأنَّه لا يَستطيع أنْ يُؤمِن ما لَم يبحث عن مَجْدِ الله ويَطلُبه: “كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟” (يو 5: 44). الإيمان مسألة مستحيلة لمن يطلب مَجْدًا مِنَ النَّاس، لأنَّه في أعماقه يؤلِّه نفسَهُ بنفسِهِ… هو لا يعترف بوُجودِ إلهٍ غيره… وإنْ أقَرَّ بلِسانِهِ بذلك أو مارَسَ الطُّقوس الدِّينيَّة… لأنَّ مَنْ يطلُب مَجْدًا مِنَ النَّاس يفعل هذه كلّها وأكثر ليُغَذِّي كبرياءه ويثبِّت عبادته لنفسه…
* * *
المرأة السَّامِريَّة كانت مُنْغَمِسَة في الخطيئة، وخطيئتها ظاهرها جسدِيّ وباطنها روحيٌّ خطير وهو تأليه ذاتها كإلهةٍ للَّذَّة، فهي تُغَيِّر الرِّجال بسهولةٍ، ولم تَعُدْ تخجل مِنْ عدم الزَّواج لأنَّ مَنْ يَعتادُ الخَطيئة يَصيرُ وَقِحًا وغيرَ آبِهٍ برأيِ الآخَرين بما يفعل، بل يَهمَّهُ تحقيق نزواته الَّتي يَرَى فيها قُوّةً له. في العُمق كلُّ خطيئةٍ مُرتَبِطة بالكبرياء ينتج بالضَّرورة عنها إشباع الغرائز وطلب اللَّذات، لذلك نرى أنّ إنسان اليوم يتخبَّط بين طلب حياة الرّفاه المتمحورة حول تمجيد النَّاس له وإشباع نزوات الجسد. إنسان اليوم لا يملّ من التَّكلُّم عن نفسه في كلِّ حينٍ ليثبِّتَ أنَّه هو الإله… أقواله، أعماله، أهدافه ومشاريعه تتمحور حول رغبته بالصُّعود إلى حيث يصير منظورًا من النَّاس وممَجَّدًا منهم. المرأة السَّامريَّة صعدت بشهواتها من كبرياءٍ إلى لذّاتٍ إلى أماكن منظورة، وصارت خطيئتها، في الظَّاهِر، قوَّةً لها وحُضورًا بين النَّاس. والنَّاس أحيانًا كثيرة يمجِّدُون الخطأة إذ ينسبون خطيئتهم إلى شجاعةٍ عِوَضَ الوَقاحة وإلى قوّةٍ عِوَضَ الضُّعف. النَّاس يُحِبُّون الشُّهرة ولو كان سببها وقاحة… هذا إنسان السُّقوط…
* * *
الرَّبُّ يأتي إلى الخاطئ وإلى العابِد لِذاتِهِ ليُحرِّرَه من نفسه، لكن ليس الكلّ قابلون لهذه العطيّة. الرَّبُّ يعرف الوقت المناسب لتوبة كلِّ إنسانٍ، وهو يطلبه في هذا الوقت الموافِق ليسترجعه من يد الشَّيطان. الرَّبُّ لا يترك إنسانًا في الجحيم لا بل يبقى قابعًا في الجحيم معه إلى أن يصير وقت استرداده إليه… هذه هي حركةُ محبّةِ الله الدَّائِمة نحونا وانتظاره اللَّامُتناهي وصبره حتّى يُعيدُنا إليه… لمّا تجسَّد الإله أراد أن يشاركنا في كلِّ شيءٍ ما خَلا الخطيئة، ولكنَّه مع أنّه بلا خطيئة لم يأنَف أنْ يُشارِكنا جحيم خطيئتنا ليرفعنا معه إلى ملكوته. هو نزل إلى جحيمنا ليُصعِدْنا إلى راحَتِه… مَن يَظُنُّ نفْسَهُ بارًّا مِنّا يخجل أن يتعاطى مع السَّاقِطين، لكنَّ الرَّبَّ أتى مِنْ أجلِ السَّاقِطين، وكلّنا ساقِطُون، مِنَّا مَنْ سُقوطُهُ ظاهِرٌ لِعُيُونِ النَّاس ومِنَّا مَنْ سُقوطُهُ مَخْفِيٌّ عن أعْيُنِ النَّاس لكنَّه ليسَ مَخبُوءًا عَنْ عَيْنِ الله…
* * *
أيُّها الأحِبَّة، لا نَدِنْ بعضنا البعض بل ليعرف كلّ منّا خطيئته ويعترف بها ليُشفى، كما فعلتْ المرأة السَّامِريَّة حين أقَرَّتْ بخَطِيئيَّتها. ما جعل المرأة تتحوَّلُ من مُشَكِّكة ومُستجوِبة للمسيح إلى مُبَشِّرة هو أنَّها أدْرَكَتْ اِنكشافِها بالكُلِّيَّة أمامَه، لذلك، راحَتْ تَدعُو أهل القرية قائلةً: “تعالوا انظروا إنسانًا قال لي كلّ ما فعلت”… الله وحده يعرف كلّ تاريخ الإنسان الظَّاهِر والخَفِيّ، هو “فَاحِص الْقُلُوبِ وَالْكُلَى” (مز 7: 9). وكما نزل إلى جحيم المرأة السَّامِريَّة إذْ أتَتْ تَسْتَقي ماءً للجسد في عِزِّ حَرِّ النَّهار فصارَتْ كلمته لها “ماءً حيًّا” في جحيمها لا بَل ماءً مُحْيِيًا في الحَقّ…
لنفتح قلوبَنا أمام يسوع ولْنَشْرَب ماءَ نِعْمَتِهِ بمُعاشَرَةِ كلِمَتِهِ الإلهيَّة الَّتي تُطْفِئ ألَمَ أهوائِنا وشهواتِنا وتُنَقِّي قلوبَنا بجَرَيانِها الدَّائِمِ فينا مِنْ أدْرانِ الخَطايا ووَسَخِ السَّقطات وتلدنا مُجدَّدًا بمعمودِيَّةِ الدُّموع وغسل القلوب بالتَّوْبَة فنتغيَّر عن إنساننا العَتيق ونَلْبَسَ الجديد بروح الله القُدُّوس الَّذي بالكلمة يجري مِنْ جوفِنا أنهارُ ماءٍ حَيٍّ للتَّعزِيَةِ والشِّفاء والشَّهادة للإله الحَيّ الوَحيد الَّذي أتانا إلى أرضنا ليرفعنا إلى ملكوته…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما