Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد بعد عيد الظُّهور الإلهيّ- العدد 2

الأحد 12 كانون الثّاني 2025

كلمة الرّاعي

القدِّيس أنطونيوس الكبير مُعلِّم البرّيّة

التَّواضع هو الأساس لكلِّ الفَضائل” (من أقوال القدِّيس أنطونيوس الكبير)

القدِّيس أنطونيوس الكبير (251-356 م) هو من أهمّ القدِّيسين في الكنيسة قاطبة. وُلد في مصر لعائلة غنيَّة، لكنَّه ترك كلَّ ثروته عندما كان شابًّا ليتبع حياة الزُّهد وذلك إثر سماعه كلمات الإنجيل في القدَّاس الإلهيّ حيث يقول الرَّبُّ للشَّاب الغنيّ: “إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي” (مت 19: 21). عاش في الصَّحراء الشَّرقيَّة لمِصرَ حيث مارس حياة النُّسك والصَّلاة والتَّأمُّل. جمع حوله العديد من التَّلاميذ الَّذين تأثَّروا بتعاليمه، ممَّا أدَّى إلى انتشار الرَّهبنة. واجَهَ إغراءاتِ الشَّياطين وهجماتهم بشجاعةٍ وقوَّة إيمان، وهو ما جعله مثالًا للصُّمود والثَّبات في الجهاد الرُّوحيّ. حياته وتعاليمه تركتْ أثرًا كبيرًا على الكنيسة والعالم المسيحيّ.

يُعتبر القدِّيس أنطونيوس الكبير أب الرُّهبانيَّة ومؤسِّس حركة الرَّهبنة في العالم المسيحيّ. تأثيره على نشأة وتطوُّر الحياة الرُّهبانيَّة كبيرٌ جدًّا، حيث أسَّس أوَّل مجتمع رهبانيّ في الصَّحراء الشَّرقيَّة لمِصْرَ، وجذب العديد من التَّلاميذ والمتوحِّدين إلى حياة النُّسك والتَّواضع حيث تزايدتْ أعدادُ الرُّهبان في أيّامه لتَصير الصَّحراء مملوءةً بالرُّهبان. ذاعَ صيتَهُ في أنحاء الأرض كلِّها. تعاليمه وأعماله كانتا أساسًا لإنشاء العديد من الأديرة والرُّهبانيَّات في جميع أنحاء العالم، وعلى مَرِّ القُرون وحتّى أيّامِنا هذه، في الشَّرق والغرب. مِنْ أهمّ تلاميذه القدِّيس اثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندريّة، والقدِّيسَيْن مكاريوس الكبير وباخوميوس مؤسِّس أديار الشِّرْكَة.

*             *             *

القدِّيس أنطونيوس كان ناسكًا مُختَبَرًا، لذا كانت تعاليمه ثمر خبرته بالرُّوح في عيش كلمة الإنجيل، هو الَّذي سعى لعيش الإنجيل بكماله. فالرَّهبنة هي هروب من العالم ومن اهتماماته للدُّخول في أعماق الله بالصَّلاة والصَّوْم والتَّوْبة، وهذا هو جهادها الَّذي يُتِمُّه الرَّاهب في سَعْيِهِ لِعَيْشِ الكلمة الإنجيليَّة بكَمَالِها. تاليًا، الرَّهبنة هي استشهادٌ مُستَمِرٌّ بالموت عن الإنسان العتيق مع أعماله للِبْسِ الإنسان الجديد وفضائله بنعمة الله. هذا ما تُجسِّده حياة القدِّيس أنطونيوس وتعاليمه بأجلى بَيان. هو بَذَلَ دَمًا لعيش كلمة الإنجيل والرَّبُّ حَبَاهُ روحًا قدُّوسًا ليُتَمِّمَ مشيئته. الإرادة عنده كانت فولاذيّة لا تَنْثَني ولا تَلين مهما اشتدَّت التَّجارب والمـِحَن والإغراءات. بالنِّسبة له “الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ” (في 1: 21)، ولذا صارع الشَّيْطان حتّى الرَّمَق الأخير وأبى أن يستسلم وهكذا غلب، لأنَّ رجاءه بالله كان ثابتًا “وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رو 5: 5).

*             *             *

من أبرز حكم القدِّيس أنطونيوس الكبير قوله: إعْرَف نفْسَكَ، واعْرَف ضُعْفَكَ، واجتهد في الصَّلاة، ولا تَخَفْ من التَّجارب، فإنَّ الله هو الَّذي يَنْصُرُكَ”. هذا القَوْل يرسم لنا خريطة الطَّريق إلى الكمال والقداسة. البداية معرفة النَّفس كوْنَها على صورة الله واكتشاف مواطن الضُّعف في تَشَبُّهِنَا بالرَّبِّ لكي نطلب الأصل (أي الله) بالصَّلاة بشجاعةٍ مُحتَمِلين التَّجارب من تهديدات وإغراءات الشَّيْطان والعالم والمَيْل الشِّرّير الَّذي فينا بسبب السُّقوط، حتّى نَخْتَبِر الغَلَبَةَ بقُوَّةِ الله إذا عَرَفْنَا أنْ نتواضع ونتَّكِل عليه ونَثِقَ به، “لقد رأيتُ شِراكَ الشَّيْطان تنتشر على الأرض فقُلْتُ وأنا أتنَهَّد: مَنْ يستطيع يا ربّ أنْ ينجو منها؟ وجاءَني صوتٌ مِنَ السَّماء يَقول: المتواضعون”.

بحسب تعليم القدِّيس أنطونيوس، الصَّبر يُمنح من الله لِمَن يتحمَّلون المصاعب بثباتٍ في الإيمان، كَوْنَهُ (أي الإيمان) “هو السِّراج الَّذي يُنيرُ طريقَنا إلى الله”. والإيمان يتنفَّس صلاةً  الَّتي “هي التَّنفُّس الرُّوحيّ للنَّفس، مِنْ دونِها، يختنق الإنسان في شِباك العالم”. والصَّلاة لا تنفصل عن الصَّوْم لأنَّ الشَّيْطان لا يُغلَب إلَّا “بالصَّلاةِ والصَّوْم” (مت 17: 21) الَّذي هو”جسرُ الرُّوح إلى السَّماء، به نتخلَّص من الأرضيَّات ونَتَّحِد بالسَّماويَّات”. وهذا هو النُّسْك الَّذي على كلّ مسيحيّ أن يعيشه، أكان راهبًا أم علمانيًّا، فالنُّسْك بحسب قدّيسنا “هو الطَّريق إلى الكمال”.

*             *             *

أيُّها الأحبّاء، القدِّيسون قدوةٌ ومعلِّمون لنا في طريق الإيمان وعَيْشِهِ للوُصول إلى القداسة والكمال. الإيمان يُعاش مع النَّاس، وحتّى النُّسَّاك فهم يتركون العالم بما فيه ولكنَّهم لا يَهجرون إنسان العالم بل يبقون شهودًا للرَّبِّ أمامهم يَسْعُون لاجتذابهم إلى المسيح المخلِّص بالقُدْوَةِ والعَمَل والقَوْل، وهم بخبرتهم يقودون ضعيفي الإيمان ويشفون أمراضَ النَّفْسِ والجَسَد بنِعْمَةِ الله الَّتي تَفيضُ منهم في صلاتهم وكلماتهم وحياتهم وحُضُورهم. وهذا ما جسَّده القدِّيس أنطونيوس الكبير في حياته إذْ حينَ وَجَدَ ضرورةً تَرَكَ الصَّحراء وذَهَبَ إلى المدينة ليُشَدِّدَ المسيحيِّين في شَهادتهم وليُجاهِرَ بحَقِّ الإنجيل دونَ خَوْفٍ مِنْ مَوْتِ الشَّهادة الَّذي كان يطلبه، وهو الَّذي بالنِّسبَة إليه المحبَّة الحقيقيَّة تتطلَّب التَّواضُع: “عندما نحبُّ الله، نَرَى أنْفُسَنَا في ضَوْءِ حقيقته، ونُدرِك ضعفنا، ممَّا يقودنا إلى التَّواضع الحقيقيّ”، فبالنِّسبَة إليه الشَّخْص الَّذي يُحبُّ بصِدْقٍ لا يُمكن أنْ يَكون متكبِّرًا: “من يُحِبُّ الله ويُحِبُّ قريبه بِحُبٍّ طاهِرٍ، لا يُمكن أنْ يشعر بالكبرياء، بل يتواضع أمام الجميع”، لأنَّ المحبَّةَ تدفَعُ الإنسانَ لرُؤيةِ الآخَرين بِعَيْنِ الاحترام والمَوَدَّة: “التَّواضُع هو ثَمَرَةُ المحبَّةِ الحقيقيَّة، فالمُحبّ المتواضع يرى في الجميع إخوة وأخوات، ويُعامِلُهم بالمحبَّة والاحترام.” هذا يَعني أنَّ الإنْسان الَّذي يَحْيَا مع الله وله يُدْرِكُ كيانيًّا مَدَى حاجَتَه الدَّائمة إلى نعمة الله، لأنّه بدون المسيح لا يستطيع أن يفعل شيئًا (راجع يو15: 5) من مشيئة الله.

ومن له أذٌنان للسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة