نشرة كنيستي- الأحد 12 من لوقا (ال10 البرص)- العدد 3
17 كانون الثّاني 2021
كلمة الرّاعي
القدّيس أنطونيوس الكبير: الحكمة في التّواضع
”تَأْتِي الْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي الْهَوَانُ،وَمَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ“ (أمثال 11: 2)
تُعيِّدُ الكنيسة المقدَّسة، في هذا اليوم الواقع فيه السَّابع عشـر من شهر كانون الثّاني، للقدّيس أنطونيوس الكبير ”كوكب البريّة، ملاك الصّحراء وأبو الرّهبان“. نسك القدّيس أنطونيوس في الصّحراء الدّاخليّة في مصـر ما يقارب الخمس وثمانين سنة، سلكها بالتّخلِّي الكامل إذ وزّع أمواله وممتلكاته الطّائلة على المساكين والمحتاجين، ولم يترك لذاته شيئًا.
قاده الرَّبُّ في جهاده وعلّمه سبيل الحياة الرّوحيّة المستقيم، فصار مقصدًا لرهبان عصره وكبارِ مؤسِّسي نظامٍ جمعَ بين عيش الجماعة والتّوحُّد، بالإضافة إلى حركة شعبيّة.
لعب دورًا كبيرًا ومهمًّا في تشديد عزم المسيحيّين أثناء الاضطهاد الآريوسيّ ضدّهم، فنزل إلى الإسكندريّة بين النّاس في الشّوارع والمنازل يشدِّدُهم ويصلّي معهم. وعظَ وشَهِدَ قائلًا: ”الّذي يتكلّمون عنه أنّه ليس إلهًا هو غيرُ المسيحِ الّذي أنا أعرفُه ويعرفُني ويَعرفُ كلَّ واحدٍ منّا. فيسوعُ هو ”إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامّ“، وأكمل: ”الكلام عن الرّبّ يسوع المسيح يأتي من القلب المجبول بالصّلاة، وليس مِن أفكارٍ عقليّةٍ محضة، وفلسفاتٍ واستنتاجاتٍ وتحاليل“.
حياته كانت إنجيلًا حيًّا يشهد للمسيح الرَّبّ، وقد كان مدرسة في عيش وتعليم الكلمة الإلهيَّة. انكفاؤه عن العالم كان لأجل العالم، ولذلك، كان ينزل إلى المدينة حين تدعو الحاجة ليعزّي ويشدِّد ويثبِّت المؤمنين بالإيمان الفاعل بالمحبَّة والمثبّت بقوّة الرّوح القدس.
* * *
لعلَّ أهمّ ما كان يشدِّد عليه القدّيس أنطونيوس في حياته وتعليمه كان التّواضع. فهو عرف بتعليم من الله هذا الأمر حين قال: ”رأيت فخاخ العدوِّ في الأرض لامعةً، فقلت في نفسـي من ينجو منها ؟ فأتاني صوتٌ من السَّماء يقول: المتواضع“. كان القدِّيس أنطونيوس يفتَتح جميع إرشاداته بذكر فضيلة التَّـواضع وضرورتها الجوهريّة للخلاص. كان يقول أنّه ”بدون التَّواضع لا نستطيع أن ننجوَ من حِيَل الشَّيطان أوَّل المتكبِّرين“. وأنَّ ”التَّـواضع هو السُّور المكين الّذي نحتمي به من سهام العدوّ الجهنـَّميّ؛ فإذا هُدِمَ السُّور أصبحنا هدفـًا لسهام الأعداء، وهو أساس كلّ الفضائل؛ فعليه يجب أن نرفع بناء الكمال“. هذه الحكمة تعلَّمها بجهاده في الصّلاة والتّأمُّل الدّائم بالكلمة الإلهيَّة والهذيذ بها. كان يلهج بكلمات الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، ويستقي منها بروح الرَّبِّ الحكمة الإلهيَّة.
كان القدِّيس أنطونيوس أُمِّيًّا. غير أنَّ الله أنعم عليه بما هو أفضل من العلم البشـريّ، إذ لسبب تواضعه منحه الحكمة الإلهيَّة. فكان له من العلم والفهم بالتّأمُّل، ما فاق به علماء عصره. وحصل القدِّيس أنطونيوس على هذه النِّـعمة بفيض الفضائل الإلهيَّة ونعمة التّمييز. وممَّا قاله في فضيلة التّمييز: ”إنـَّها سيِّدة جميع الفضائل“. ولما سُئِل يومًا عن الكمال المسيحيّ أجاب: ”للبلوغ سريعًا إلى الكمال المسيحيّ اِفتكر في أنَّـك تبدأ اليوم بخدمة الله. وافتكر في أنَّ هذا اليوم قد يكون الأخير من حياتك. إذا جرَّبك العدوّ فتذكَّر أنَّ الشَّيطان لا يقدر البتَّة أن ينتصـر على الصَّلاة والصَّوم وعلى محبَّة يسوع الحارَّة“.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، القدِّيسون هم معلّمونا في طريق التَّقديس، وهم قدوتنا. صحيح أنّ القدّيس أنطونيوس الكبير كان راهبًا وناسكًا، ولكنّه عاش حياة الشّركة أيضًا مع الرّهبان ومع المؤمنين، وشاركهم اضطهاداتهم وضيقاتهم وأفراحهم بالرّبّ. وفي كلّ هذه الخبرة الطّويلة الّتي عاشها في حياة التّوحُّد، استخلص أنّ ”حياتنا وموتنا هما مع قريبنا، فإن ربحنا قريبنا نربح الله، وإن أعثرنا قريبَنا نخطئ ضدّ المسيح“. هـــــــذه هي خـــــــــــلاصــــة الحـــيـــاة المسيحيَّة والجهاد الرّوحيّ. هكذا نُرضي الله. كلّ نسكنا وتقشّفنا وصلواتنا وأعمالنا وخدمتنا غايتها أن نربح القريب. هكذا علينا أن نسلك لنكون مسيحيين في هذا العالم، هكذا نكون عاقلين في عيني الرَّبّ ومجانين في أعين البشر. هذا ما سبق فتنبَّأ عنه القدّيس أنطونيوس الكبير قائلًا: ”يأتي وقتٌ فيه يصاب البـشـر بالجنون، فإن رأوا إنسانًا غير مجنون، يهاجمونه، قائلين: أنت مجنون، إنّكَ لستَ مثلنا“… نعم!… نحن اليوم في هذا الزَّمن، لكن فلنثبت في الشهادة لحقّ الإنجيل كما ثبت، قبلنا، آباؤنا القدِّيسون والشهداء لينقلوا إلينا سرَّ الحياة الأبديّة والغلبة على الموت والخطيئة في طاعة الكلمة الإلهيَّة حتّى المنتهى…
ومن له اذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما