نشرة كنيستي- الأحد (1) بعد العنصرة (جميع القدّيسين)- العدد 25
19 حزيران 2022
كلمة الرَّاعي
القدِّيسون والآلام
”إنَّ القدِّيسينَ أجمَعين بالإيمانِ قهَروا …“ (عب 11: 33)
يظنُّ النّاس، بعامّة، أنّ من يرضى عنه الله لا يتحمّل ضيقات أو آلام أو عَوَز في هذا العالم. هكذا كان يعتقد اليهود قديمًا أنّ من يعاني في هذا العالم فهو غير مَرضيّ عنه من الله. الرّبّ يسوع المسيح كشف لنا بُطل هذا الكلام، إذ هو الكامل والبارّ بالمطلق والَّذي لم يعرف خطيئة وابن الله الَّذي سُرّ به الآب تحمّل الاضطهاد والظُّلم واللَّطم والبصاق والحكم من البشر والجلد والصّلب… القدّيسون شاركوا الرّبّ كلّ هذا، كما نسمع في رسالة هذا الأحد (عب 11: 33—40 و12: 1– 2).
من القدّيسين المعاصرين مَن عانوا الأمراض المستعصية وتوفّوا بسببها، مع أنّهم كانوا يَشفون بنعمة الله الَّذين كانوا يأتون إليهم، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر القدِّيس نكتاريوس العجائبيّ أسقف المدن الخمس والقدِّيس باييسيوس الآثوسيّ والقدِّيس بورفيريوس الكافسوكاليڤي (الرّائي)… القدّيسون ليسوا مُعفَين من الآلام والأمراض بل هم شهود لنا في الإيمان الغالب الموت من خلال التّسليم الكلّيّ لمشيئة الله… المرض وآلامه تصير لهم فرصًا لجني أكليل المجد من الله…
* * *
لا قداسة بدون شهادة واستشهاد. من يهرب من الألم يهرب من القداسة، لأنّ ألم التّوبة مطهِّر وشافٍ ومحرِّر بنعمة الله، أمّا ألم الاستشهاد فيُمَجِّدُ اللهُ به الإنسان وهو (أي الله) يَتَمَجَّدُ فيه (أي في الإنسان).
لا قداسة، أيضًا، بدون اعتراف بابن الإنسان، فمن ينكره أمام النّاس ينكره هو أمام ملائكة الله. من يستحي بالمسيح يستحي به المسيح أي يَدينه أمام الآب. الاعتراف بالإيمان بالرَّبِّ له ثمن، وثمنه خلاص النّفس. لذلك الجبان في الاعتراف بإيمانه، أي بعيشه والشّهادة له، لا يستطيع أن يتقدَّس.
كما أنّه، لا قداسة بدون تَخَلٍّ عن أنفسنا ومَن/ وما لنا. هكذا يقول الرَّبُّ في إنجيل اليوم إنّ من يحبّ أيّ شخص أو شيء أكثر منه فلا يستحقّه، كما أنّه يؤكِّد بأنّ من يترك أشخاصًا أو أملاكًا لأجله يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديَّة.
ألا يستأهل ميراث ملكوت السّماوات هذه التّضحيات؟!… لذلك يقول الرَّبُّ: ”مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟“ (لو 9: 24—25).
لا يستطيع الإنسان أن يَفدي نفسه، لأنّه ليس من إنسان بلا خطيئة، لأجل ذلك افتدانا البارّ الَّذي لم يعرف خطيئة ليحرِّرنا من الخطيئة وعبوديّة إبليس ويطلقنا ”إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ“ (رو 8: 21).
* * *
أيُّها الأحبَّاء، يوجد الكثير من القدِّيسين الَّذين عاشوا قبلنا أو معنا والَّذين ما زلنا نحيا معهم ولا نعرفهم. لذلك، حدَّدت الكنيسة المقدَّسة عيدًا جامعًا لهم في الأحد الَّذي بعد العنصرة، لأنّ القداسة هي ثمرة عمل روح الله في الإنسان وسكناه فيه.
القداسة هي بساطة الإيمان أي كلّيّة تسليم حياتنا لله دون تذمّر أو شكوى في رضًى تامّ بمشيئة الله الَّذي لا يعطينا إلّا كلّ ما هو مناسب لخلاصنا…
لأجل ذلك، رتّبت الكنيسة المقدّسة أن يبدأ صوم الرُّسُل بعد أحد جميع القدّيسين وإلى عيد هامَتَيْ الرُّسُل بطرس وبولس لكي تعلّمنا أنّه بالصَّلاة والصَّوم وعَيْش وصايا المسيح والكِرازة بها والشَّهادة للرَّبِّ نتقدّس كما تقدَّسَ الرُّسُل والشُّهداء والأبرار.
لذلك، يدعونا الرَّسول بولس، في رسالة هذا الأحد، إلى أن ”نُلْقِ عنَّا كلَّ ثِقلٍ والخطيئةَ المحيطةَ بسهولةٍ بنا. ولْنسابِقْ بالصَّبرِ في الجِهاد الَّذي أمامَنا، ناظِرِين إلى رئيسِ الإيمانِ ومكمِّلهِ يسوع“ (عب 12 : 1—2). هذا يعني أنّ يسوع هو قدوتنا وهو قدوة القدّيسين، ومن يكون يسوع قُبْلته عليه أن يحيا جهاد التّحرُّر والتّنقية بالصّبر في الرّجاء ليكمِّلَ يسوعُ لنا إيماننا بنعمة روحه القدّوس إذ نتّكل عليه ونسلمه ”ذواتنا وبعضنا بعضًا وكلّ حياتنا“.
آلامنا وأحزاننا وضيقاتنا … كلّها فرص للمؤمن ليزداد قداسة ويجمع أكاليل المجد من لدن العليّ متى سلك بالإيمان في الرّجاء لأجل محبّة الله والاتّحاد به في سرّ التّخلّي عن كلّ شيء ما عدا طاعة مشيئة الله في طلب نعمته للقداسة…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما