نشرة الكرمة – الأحد (5) بعد العنصرة – 09 تمّوز 2023
الفقر شرط القداسة
“طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ” (لو 6: 20)
في إنجيل لوقا يقابل التَّطويبات وَيْلات، وفي هذا نمطٌ لا نفكِّر فيه عادةً، أي أنّنا إن لم نسلك في الوصيّة لننال البركات فإنّنا عند مخالفتها نحصد اللَّعنات. عادة ما نتعاطى مع وصايا المسيح على أنّها غير ملزمة، ولهذا قد يختار الإنسان ما يناسبه من الوصايا ليطبّقه حسب مزاجيّته وظروفه، في حين أنّ الوصيّة واجبة في كلّ حين وبخاصّة عند صعوبة تطبيقها. في الحقيقة، لا يستطيع الإنسان أن يطبّق وصيّة الله بقوّة نفسه، لأنّ الوصيّة تقول: “بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا” (يو 15: 5) وأيضًا: “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي” (في 4: 13).
في مقابل التَّطْويبة: “طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ” (لو 6: 20) نجد الوَيْلَة: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ” (لو 6: 24). المساكين هنا هم الفقراء إلى المال، وما يؤكّد ذلك هو الآية المقابلة الّتي تتحدّث عن الأغنياء.
هل الله ضدّ الأغنياء أو يكرههم؟!…
حاشا!… في الآيتين أعلاه، يقابل العزاء المادّيّ في هذا العالم ملكوت الله.
المَقصود، إذًا، أنّ الَّذي يعتبر أنّ غناه هو تعزيته الوحيدة ومصدر حياته سيتنعّم بما يملك فقط في هذا الدّهر، وسيخسر التَّنَعُّم في الحياة الآتية، لأنّه لم يَعِشْ ليطلب ملكوت الله بل لِيَحْيا مجد هذا العالم ولذائذه حَصْرًا.
أمّا الإنسان الَّذي يحيا في الدّنيا فقير المال ولكنّه متنعِّم بالإيمان بالله والاتّكال عليه وهو يقبل الفقر طوعًا لأجل ربح ملكوت الله، فهذا هو السَّالك في وصيّة الرَّبّ والطّالب ملكوته أوَّلًا متيقِّنًا أنّ كلّ شيء آخَر يُعطى ويُزاد…
القضيّة الجوهريّة في حياة المؤمن هي أن يكون ابنًا للملكوت منذ الآن ليقتنيه في الدَّهر الآتي. والفقر مسألة جوهريّة في هذا المسعى أو الجهاد، لأنّ تعلُّق الإنسان يجب أن ينصبّ على حياة الدَّهْر الآتي الأبديَّة وليس على حياة هذا الدَّهْر الزّائلة. مِنْ هنا يصير الفقر والغنى كلاهما وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
الفقر يهدف إلى التّحرُّر من التَّعلُّق بالعالم ومن الاتّكال على المال لتثبيت المؤمن في الثِّقة بالله وطلب السَّعادة الأبديَّة، أمّا الغنى فيستحيل أداة لخدمة الله في الإنسان أي في التَّعبير عن محبّة الله من خلال محبّة الإنسان وبذل المال لأجل المُحتاج الَّذي وَحَّدَ الرَّبّ ذاته معه (راجع مت 25: 31 – 46).
في كلّ حال الفقر مطلوب من المؤمن، لأنّه إن لم يُخْلِ الإنسان ذاته كما فعل المعلّم (راجع في 2: 5 – 11) لا يمكنه أن يستقبل الله فيه، أي أن يصير مسكنًا للنِّعمَة. الفقر، أو أن يدرك الإنسان أنّه فقير إلى الله، أي أنّ حاجته الكيانيّة الجوهريّة هي فقط إلى هذا الـ “واحد” (راجع لو 10: 42)، هو الحاجة الأولى والمطلب الأوّل الَّذي على الإنسان أن يسعى إليه إن كان يريد اقتناء الحياة الأبديّة وتذوّقها منذ الآن.
في الكنيسة نماذج كثيرة من القدّيسين الّذين سبقونا، والَّذين أظهَروا لنا بمثالهم قوّة سرّ الفقر في تجلِّي مجد الله في الإنسان هنا في هذا العالم. ومجد الله هو راحة البشر وفرحهم، وراحة البشر تُختَبر في عِشرة الودعاء والمتواضعين، لأنّ الرّبّ قال لنا صراحة: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (مت 11: 29).
مِنْ هنا الفقر الطَّوْعيّ أي التّحرُّر من سلطة العالم عبر طلب ملكوت الله وبرّه أوّلًا هو شرط القداسة للمؤمن…
ووَيْلٌ لِمَن يُهمل هذا الشّرط…
من له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما