نشرة كنيستي- الأحد (3) بعد العنصرة- العدد 27
03 تمّوز 2022
كلمة الرَّاعي
العَيْن والقَلْب والنُّور والنَّقاوَة
”لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ،
سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ“ (مت 15: 19)
في إنجيل هذا الأحد، يحدِّد لنا الرَّبّ مدخل النُّور والظّلمة في الإنسان بالعَيْن، لأنّ العَيْن هي الواسطة لما في الخارج أن يدخل إلى الدّاخل ولما في الدّاخل أن يخرج إلى الخارج. لذلك، يقول: ”فإنْ كانت عينُك بسيطةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ نَيِّرًا، وإن كانت عينُك شرّيرةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ مُظْلمًا“، جاعلًا حالة العَيْن تعبيرًا عن ما في القلب. فالعَيْن البَسيطة هي ثمرة القلب المستَنير، والعين الشّريرة هي ثمرة القلب المُظلِم. والكتاب يقول صريحًا: ”فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ“ (أم 4: 23). كيف يحفظ الإنسان قلبه بحفظ عينه أي حواسه، لأنّ العين هنا هي واجهة التَّواصل أو الواسطة (interface) ما بين العالمَين الدّاخليّ والخارجيّ للإنسان وبالتّالي هي تمثّل الحواس بشكل عام.
المسألة المَطروحة علينا هي كيف ننظر أو كيف نرى. هذا يتعلَّق بالكَوامِن الدَّاخليّة للنَّفْس الَّتي تكشف ما في القلب. إنسان ما بعد السّقوط مملوء بالأهواء والخطايا الَّتي يُدركها والَّتي لا يُدركها، لذلك يقول كاتب المزامير: ”مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي“ (مز 19: 12).
إظلام الإنسان أو استنارته مرتبطان بنقاوة القلب. ”مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ؟ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِبًا“ (مز 24: 3—4). نقاوة القلب تُترجَم بطهارة اليدين مع كلّ ما يرمز إليه هذا الأمر من ابتعاد عن صنـــع الــــــشّـــرّ ومن فِعلٍ للخير. في النّهاية الأفكار ستترجم أعمالًا، والأعمال تكشف حقيقة الأفكار وبالتّالي حقيقة الإنسان الدّاخليَّة هل هي نور أم ظلمة!…
* * *
مبدئيًّا، ليس من إنسان طاهرًا بل الكلّ في السَّعِي، من هنا المَسيرة الرّوحيّة تبدأ بالتَّنقية وتعبر بالاستنارة ثم تتكلَّل بالمعاينة (ثاوريَّا). فلا يوجد إنسان بلا خطيئة ولو كان ابن يوم واحد، ”إذ الكلّ أخطأوا وأعوزهم مجد الله“ (رو 3: 23). والخطيئة إمّا تأتيك من الخارج إمّا تصدر من الدَّاخل. ما يأتي من الخارج أي من الفكر والعقل والحواس قابل للمُحارَبَة أكثر ممّا ينتج عن الدَّواخِل. الأفكار الَّتي تدخل عليك تستطيع أن تحاربها أكثر من الَّتي تصدر منك، فالآتية من الخارج تدخُل معها في حرب، وطالما أنّك لم تقبلها فأنت تسود عليها، وهي لن تغادرك سريعًا لأنّها تمتحن أمانتك للرَّبّ. بقاء الفكر ولجاجته ليس سقوطًا، بالعكس صمودك أمامه برٌّ عند الله ولكن إن ضعفت وقبلت الفكر تكون على شفير الهاوية وأمامك فرصة أخيرة بأن تطلب معونة الله باتّضاع وانسحاق ولَجاجَة، إذا استيقظ ضميرك قد ينجّيك الله من تحقيق سقوطك ويرفع عنك التّجربة. مرحلة قبول الفكر الخاطئ هي مرحلة خطرة لأنّها عادةً ما تؤدِّي إلى دخوله إلى القلب واستقراره هناك حيث يتحوّل الفكر بعادة الخطيئة إلى هوًى قابض على مخارج القلب. التَّوبة بعد هذه المرحلة مسألة فيها الكثير من الألم والشَّقاء، وتحتاج إلى إرادة بشريّة صادقة وصارِمَة ونعمة إلهيّة غزيرة مع آلام ودموع وصلوات مكثّفة من الشَّخص نفسه ومن الكنيسة لكي يُختطف الإنسان من براثن إبليس الَّذي يكون قد قبض عليه مكبَّلًا من الدَّاخل والخارج…
* * *
أيّها الأحبّاء، من كان قلبه من الدَّاخل أمينًا جدًّا لله، لا يَخُون خالقه مع الأفكار الشِّـرّيرة أفكار الشَّهوات والغضب، ولا يفتح لها بابًا أو نافذةً من خلال الحواس في القلب، ولا يتعامل أو يتحاور معها ولا يقبلها. مَنْ سَلَكَ هكذا، يهرب منه كلّ فكرٍ شرّير وتخافه الشَّياطين… أمّا من تساهل مع الأفكار، فإنّها تجرؤ عليه…
القلب المنحرف عن الأمانة لله، أصدر عنه أفكار مصدرها رغبات أو شهوات مُعشِّشة فى القلب، وقد يكون الكثير منها مكبوتًا فى العقل الباطن أو اللَّاوعي من مشاهدات الإنسان اليوميّة وحركاته وعلاقاته. من هذا المخزون في الدّاخل تخرج الأفكار بسبب أي مُحفِّز لفكرة من الأفكار أو لصورة من الصُّوَر. لذلك، لا بُدَّ من تنقية القلب والعقل الباطن بالصَّلاة والقراءة الرُّوحيّة للكلمة الإلهيّة والآباء وبعمل التَّوبة والاعتراف وبتطهير البيئة الخاصَّة الَّتي يَحيا فيها الإنسان من خلال الابتعاد عن كلّ ما يغذّي في النّفس حرارة الشّـرّ والأهواء الغضبيّة، حين يكون خارج الأطر المفروضة عليه في العمل اليوميّ والعلاقات الخارجيّة.
لتصير العين بسيطة يجب أن يكون القلب نقيًّا، وليصير القلب نقيًّا لا بدّ أن يكون الله هو السّاكن فيه، وليسكن الله قلب الإنسان لا بُدَّ للإنسان أن ينكر ذاته ويطلب إرضاء الرَّبّ، وليطلب الإنسان إرضاء الرَّبّ يجب أن يكون حبّه موجَّهًا، أوَّلًا، نحو السّيّد ومن حبّ السّيّد، يتوجّه، ثانيًا، إلى محبّة القريب كالنّفس، وهذا كلّه يتمّمه بطاعة وصيّة المسيح.
الظُّلمة في القلب تخنق الفرح في الإنسان، والنُّور في القلب يمنحه سعادة أبديَّة. يسوع دلّنا على طريق النّور والفرح والسّلام، والطَّريق هو هو، أمّا ما هو مطلوب منّا لنسلك الطَّريق فهو أن نأخذ القرار بأن نطلب ”ملكوت الله وبرّه أوَّلًا“ …
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع …
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما