نشرة كنيستي- الأحد (24) بعد العنصرة- العدد 47
19 تشرين الثّاني 2023
كلمة الرَّاعي
العَداوة والمُصالحة
”إنَّ المسيحَ هو سلامُنا، هو جعلَ الإثنينِ واحدًا،
ونقَضَ في جَسدِه حائطَ السِّيَاجِ الحاجزَ أَيِ العَداوَة…“
(أف 2: 14 – 15)
منذ سقط الإنسان مِنْ حَضرة الله، دخل في الانقسام الكَيانيّ الدّاخليّ على الصَّعيد الشَّخصيّ، وانقسم الجنسين على بعضهما البعض، ودخلت علاقة الإنسان بالكَوْن في الفوضى والمُقاوَمَة بعضهما لبعض، كما اختلّ نظام الطَّبيعة والكَوْن. هذا كلّه حصل لأنّ الإنسان صار عدوّ الله، اعتبر الله مُهدِّدًا لوجوده فرفض الله وصار يبحث عن آلهة ليخترعها، آلهة تخضع له ولا يخضع لها…
صار الإنسان عدوّ نفسه وعدوّ كلّ ما هو خارج عنه. والعَداوة مدمِّرة، أي تدفعك إلى تدمير عدوِّك لأنّه يشكّل تَهْديدًا لك. هل يستطيع الإنسان أن يدمّر الله؟!… حاشا!… في كلّ الأحوال هذا أمرٌ مُستحيل لأنّ الإنسان مخلوق والله هو الخالق… لكن، من الممكن تدمير صورة الله أي الإنسان نفسه والآخَر والخليقة الَّتي تَشهد لحكمة صانعها وجماله ولا محدوديّته… هذا ما حاول إبليس أن يحقِّقه إذ جرّب الإنسان وأسقطه مِنْ حَضْرَة الله وعِشرته… منذ السّقوط صار الإنسان مَبِيعًا للخطيئة والموت، لم يعد حُرًّا على صورة خالقه بل صار عبدًا لشهواته وأهوائه وملذّاته ومخاوفه وضعفاته لأنّه فقد الأمان والطّمأنينة والسَّلام الَّذين مَصدرهم الله….
* * *
الله المُحِبّ البشر لم ولن يترك خليقته، ورأس خليقته هو الإنسان، لذلك خطّط الله منذ الأزل للتّجسُّد، وأعلن هذا أوّل مرّة عندما قال للحَيَّة بعد السُّقوط مباشرةً: ”عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ“ (تك 3: 14 – 15). منذ هذه اللَّحْظَة نَشَأَ صِراعٌ بين إبليس والإنسان سَيَدُوم إلى يَوْمِ مَجيء الرَّبّ، لكنَّ الغَلَبَة فيه مَحْسُومَة بالَّذي يَسْحَقُ رأس الأفعوان…
هذا ما جاء ابن الله المُتَجَسِّد لِيُحَقِّقَه وقد أتَمَّهُ في ذاته ومنح المؤمنين به أن يشتركوا في الواقع الجديد والخليقة الجديدة الَّتي هو باكورتها كإنسان…
يسوع المسيح هدم سياج العداوة بين الإنسان والله في ذاته لأنّه كإنسان أحبّ الله وأسلم ذاته إليه في طاعةٍ كاملة إذ ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ“ (في 2: 7 – 8). ردّ يسوع للإنسان وَحدته الدَّاخليّة الكيانيّة إذ فيه صار الإنسان يحيا بمشيئة الله، وجدَّد الطَّبيعة في جسده فعاد الانسجام والوحدة بين الإنسان والكون في طاعة الله.
في يسوع المسيح لم يَعُد يوجد صراعٌ داخليّ في الإنسان بين مشيئته ومشيئة الله، الإنسان أطاع الله طاعةً كامِلَةً ونِهائيَّة لأنّه يُحِبُّه وليس غصبًا أو جبرًا، وتمام هذه الطَّاعة كان في الصّليب حيث مات آدم العتيق مَوْتًا نهائيًّا إذ حمل يسوع على عاتقه خطايا البشريّة إذ تحمّل نتيجتها الّتي هي قبوله بموت الجسد ليغلب بالموت الموت الرُّوحيّ أي العصيان فيخلق في ذاته لله شعبًا جديدًا وخليقةً جديدةً على صورته، على صورة الله ومثاله.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، لن يجد الإنسان سلامًا ما لم يؤمن بيسوع المسيح الذّي هو إله السَّلام وسلامنا نفسه. سلام يسوع هو حقيقة الدَّهر الآتي، هو ليس من هذا العالم، وبالتَّالي لا يُعَكِّرُه شيء من العالم.
في الدُّنيا حروب وقتل ودمار ووحشيّة وحقد وانتقام وكراهية وفساد وإفساد وآلام وظلم وجشع وطمع ودنس، إلخ. هذا كلّه لأنّ البشر لم يعرفوا الحقّ، لم يعرفوا يسوع. لا خلاص للعالم من عداواته بين الشُّعوب إلَّا بيسوع المسيح، لذا وُضِعت علينا الضَّرُورة والحاجة أن نبشِّر بخلاص إلهنا وحقِّه ليصير العالم مكانًا أفضل.
لن يوجد سلام إذا لم يَسُدْ الحَقّ، والحَقّ في العالم مَرفُوض إذْ ”أَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً“ (يو 3: 19). عمل ”أبناء النُّور“ (يو 12: 36) هو اقتناء سلام الله في داخلهم ليغلبوا بقوَّةِ الرَّبّ وسلامه كلّ عَداوَة فيَصيروا بالمسيح باكورة الخليقة الجديدة في هذا العالم وبقعة من ملكوت الله في هذا الدّهر إلى أن يُستَعلنَ الملكوت أخيرًا في يوم الرّبّ…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما