نشرة الكرمة – أحد العنصرة – 12 حزيران 2022
العنصرة
تعيّد الكنيسة المقدَّسة بأحد العنصرة الَّذي يختتم الزَّمن الفِصحيّ بعد خمسين يومًا من أحد القيامة. عيدُ العنصرة هو عيد ميلاد الكنيسة. يوم العنصرة تمَّم يسوع وعده لتلاميذه بإرسال الرُّوح المُعَزِّي لهم (راجع: يو14: 26، لو 24: 49 وأع 2: 33).
بالعنصرة يتحقَّق الفصح والصُّعود في الكنيسة وفي المؤمنين بيسوع المسيح. في هذا اليوم، حلَّ الرُّوح القدس على الرُّسُل والتَّلاميذ الآخرين الَّذين كانوا مجتمعين في الصَّلاة مع مريم والدة الإله في عِلّيّة صهيون. كان عدد الجماعة نحو مئة وعشرين شخصًا (أع 1: 14-15). يسوع القائم من بين الأموت صعد إلى السَّماء ليُرْسِل روحه إلى الكنيسة فيستقرَّ فيها، ويمنح المؤمنين به أن يعيشوا هذا السّرّ أي أن يشاركوه حياته الإلهيّة، ويُصبحوا شهودًا له في كلّ العالم.
* * *
عنصرة لفظة عربيّة مأخوذة من العبرية “עצרה” (عتصيرت) ومعناها اجتماع أو احتفال. وأمّا التَّسمية اليونانيّة للعيد “πεντηκόστη” أي الخمسين، لأنّه كان يُحتَفَل به بعد مرور خمسين يوم من الفصح (لاو 23: 16). دُعي أيضًا عيد الأسابيع “שבועות” (شفوعوت) (راجع: طوبيّا 2 :1). ويعتبر عيد العنصرة (عيد الأسابيع) أحد أعياد الحج اليهوديّة الثّلاثة مع عيد الفطير (الفصح) في الرّبيع وعيد المَظال (قطْف الثِّمار في الخريف) (تثنية الاشتراع 16: 13 ولاويين 23: 34). يَحتفل به اليهود به في حضرة الله مع جميع أهل البيت ومع الفقراء. وبعد دخولهم أرض كنعان كان يحتفل اليهود بهذه الأعياد في الهيكل.
وفي القرن الثّاني قبل الميلاد تطوّر العيد وأصبح ذكرى نزول الشَّريعة على يد موسى كليم الله في طور سيناء لأنّ الشّريعة أعطيت خمسين يومًا بعد الفصح (خروج 19: 1- 16). وفي وثائق قمران تبدو العنصرة أهمّ الأعياد الَّتي فيها يحتفلون بتجديد العهد.
في العنصرة تحقَّقتْ مواعيد الله، ففي الأيّام “الأخيرة سوف يُعطى الرُّوح للجميع” (يوئيل 3: 1- 5، حزقيال 36: 27). وسبق يوحنّا المعمدان وتنبّأ بحضور ذلك الَّذي كان مُزمِعًا أنْ يعمِّد بالرُّوح القدس (مرقس 8:1). وقد ثبَّت يسوع بعد قيامته هذه المواعيد إذ قال لتلاميذه “تعمَدون بالرُّوح القدس بعد أيّام قليلة” (أعمال 1: 5).
* * *
نقرأ في إنجيل اليوم (يوحنّا 7): “إنْ عَطِشَ أحد فليُقبِل إليّ ويشرب”. ويكمل يسوع قائلًا: “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهارُ ماءٍ حَيّ”. الرُّوح القدس هو هذا الماء الحَيّ أي المُتَجَدِّد لأنّه ينبوع الحياة وصانعها وهو ثابت الطَّبيعة كما أنّ الماء لا يتغيّر بطبيعته. لا حياة بدون ماء. كلّ شيء يمكن أن يُستغنى عنه إلّا الماء. هذا يعني أنّ الحياة الجديدة الَّتي بالرُّوح القدس هي أصل وجوهر حياتنا والَّتي بدونها لا نستطيع أن نحيا. بدون روح الله لا حياة لنا. روح الله هو مصدر حياتنا وهو يَمُدُّ حياة الله فينا ومن خلالنا في العالم.
الكنيسة هي مطرح وجود هذا النَّبع في العالم لأنّها جسد المسيح. كما يستقرُّ الرُّوح القدس في المسيح يستقرُّ في الكنيسة. لذلك، الكنيسة هي منبع روح الله في العالم، والرُّوح نفسه يشدُّ النّاس إليها ويجذبهم ليأخذهم إلى المسيح فيُتْحِدُهُم به في جسده.
* * *
صار الإنسان بالمسيح في نعمة الرُّوح القدس “هيكل الله” (راجع: 1 كورنثوس 3: 17 و2 كو 6: 16)، أي هو مَمْلوء من حضوره ومجده بالنّعمة الإلهيَّة. الرُّوح القدس يعطينا الصّفات الإلهيَّة أي يجعلنا شبيهين بالمسيح (راجع: غلاطية 5: 22 و23). بالرُّوح القدس نحقِّق مسيحيَّتنا أي نصير مُسَحاء صغار حاملين في جسدنا “سمات الرّبّ يسوع” (غل 6: 17) لأنّنا نسلك وراء معلّمنا طريق إخلاء الذّات وحمل الصّليب وعيش المحبَّة ببذلنا ذواتنا لأجل الإخوة (راجع: فيليبي 2: 5 – 11 وغل 6: 1 – 10).
الرُّوح القدس هو “روح التّقديس وعربون الدّهر الآتي …” (أنافورا القدّيس باسيليوس الكبير). بالعنصرة منحنا الله ذاته لنعود إليه بمؤآزة قوّته فنحقِّق بالمسيح مشروعه لنا أي أن نصير له أبناءً وورثة. العنصرة حدث أبديّ تحقِّق في الكنيسة ويتحقَّق في كلّ مؤمن إذ يُعطى له أوّلًا في المعموديّة والمَيْرون والمناولة الإلهيّة وفي سائر الأسرار، إنّها خبرة حياة الدّهر الآتي منذ الآن… هذه خبر الكنيسة المقدَّسة والقدّيسين وهذا ما نطلبه في حياتنا أن نكون عنصريين أي روح الرّبّ يهبّ فينا على الدّوام لنصير للمسيح شهودًا بقيامته وغلبته على الموت وتبنّي الله الآب لنا به…
من له أذنان للسَّمع فليسمع.
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما