نشرة كنيستي- الأحد (4) بعد العنصرة (آباء المجمع المسكوني الرّابع)- العدد 29
الأحد 18 تمّوز 2021
كلمة الرّاعي
العمل والمعرفة
“وأمَّا الّذي يعمَلُ ويُعلِّمُ فهذا يُدْعَى عظيمًا
في ملكوت السّماوات” (متّى 5: 19)
ما الَّذي يسبق: العمل أم المعرفة؟َ!… بدون معرفة كيف نصنع ما يجب أن يكون، وكيف نقول ما يجب أن يُعرَف؟!… في الحياة العمليّة العلم يسبق العمل، إذ يدرس الإنسان الطّبّ ليمارسه وكذا الهندسة … أمّا في الحياة الرّوحيّة فالقداسة لا تُدَرَّس بل تُعلَّم بالقدوة. الإيمان لا يُعلَّم بل يُنظَر ويُرَى ويُنقل بالمِثال، وبعدها يأتي العلم والمعرفة، لأنَّ معرفة الله خبرة شخصيّة بشكلٍ جوهريّ وليست هي مسألة عموميَّة تخصُّ شعبًا أو أمّة وحسب، لأنّ الله هو أوَّلًا إلهٌ شخصيّ، “أَنَا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ” (خروج 3: 6).
أن نعرف الله هي غاية وجودنا. لكنّ، المعرفة المقصودة ليست هي معرفة عقليّة تحليليَّة بل هي وحدة تامّة مع الخالق. هي، في آن معًا، معرفة مُعطاة ومطلوب اقتناؤها؛ هي موجودة ومخفيَّة، هي ملموسة وغير محدودة، هي اقتناء حياة الرَّبّ أي سُكناه فينا وسكنانا فيه، هذا لأنَّ الله حيّ (راجع مثلًا: 2 صموئيل 2: 27 وأيوب 27: 2 و1 ملوك 18: 15).
* * *
آباء المجمع المسكونيّ الرّابع المنعَقد سنة 451 في خلقيدونية، الَّذين نعيّد لهم اليوم، كشفوا لنا سرّ الخلاص الَّذي أتمّه الرّبّ في ابنه المتجسِّد، ومعنى اتّحاد الله بالإنسان واتّحاد الإنسان بالله، إذ أكَّدوا على وحدة أقنوم المسيح الإله واتّحاد الطّبيعة الإلهيّة والبشريّة فيه بدون أن تخسر أيَة طبيعة شيئًا من خصائصها إذ “يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الرَّبّ يسوع المسيح”.
بحسب هذا الإيمان، صار البشر، في المسيح، يشتركون بما للألوهة من صفات، أي قوى إلهيَّة، بالرّوح القدس الَّذي يحلّ عليهم في الأسرار (sacraments) أي صاروا يعرفون الله من خلال سكناه فيهم بالنّعمة واتّحادهم به. ممّا لا شكّ فيه، أنّه حتّى يصل الإنسان إلى إدراك هذه الحقيقة، أي عيشها، أمامه مسيرة جِدِّيَّة من الجهاد والمشقّات، في مُحاربة الطّبيعة الأهوائيّة الَّتي تسيطر عليه، من خلال الصّلاة والصّوم وعِشْرَةِ الكلمة الإلهيّة والخدمة، من جهة، وبواسطة عيش الطّاعة الإنجيليّة، من جهة أخرى. من يرفض أن يطيع وصيّة الرَّبّ لا يقدر أن يتَّضع ولا أن يتعلّم محبّة الله والقريب، ولا ينفتح كيانه لاستقبال النّعمة الإلهيّة المنيرة للشّخص في جسده ونفسه وروحه، بل يصير له علمه فخًّا وسببًا للانتفاخ …
* * *
من عرف الله عاش معه وفيه وله وبه، وصار حضور الرّبّ ظاهرًا في أعماله وأفكاره. ليست المعرفة سوى خبرة القداسة أي الانفراز عن العالم لمشابهة الله، لتحويل ذواتنا إلى عالم للرّبّ أي ملكوتًا له، يشعُّ نوره من خلالنا حين يرى النّاس أعمالنا “الصَّالحة” فيمجّدون أبانا الَّذي في السّماوات.
المعرفة الإلهيّة تُنقَل بالكلمة وتُعطى بالانبثاث من خلال حركة الحبّ الإلهيّة الّتي يعيش فيها المؤمن مع الله ويمدُّها في الكون من خلال شخصه وفي حياته اليوميّة. النّورُ الإلهيّ وَصِفَاتُ النّعمة تظهر جليَّة على من أَسْلَمُوا ذواتهم للرّبّ بالطّاعة الكاملة، لأنّه حين يُخلي الإنسان نفسه إذ يتبع المعلّم حاملًا صليبه بكلّ أمانة، يصير مسكنًا لله ونورًا يضيءُ ظلمة طالبي الحقّ. الرَّبّ يريد له أنوارًا من نوره ليضعها على المنارة لتضيء العالم، ليعرف العالم أنّ الله أحبّه حتّى المنتهى إذ أرسل ابنه الوحيد ليشاركنا ما لنا في إنسانيّتنا حتّى يهبنا ما هو له في ألوهيّته، محرِّرًا إيّانا من إنساننا العتيق بالموت والقيامة في حياة التّوبة بالنّعمة الإلهيّة.
هكذا تجلَّى آباء المجمع المسكونيّ الرّابع أنوارًا مشعَّة بـ”النّور الَّذي لا يغرب” نور الحقّ والطَّريق إلى الحياة الأبديّة، وثبّتوا لنا الإيمان القويم الَّذي به نحيا في استقامة العقيدة الَّتي تكشف لنا محبّة الله اللّامتناهية تجاهنا، إذ يريدنا أن نحيا به ونتحرَّك وننوجد…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما