Menu Close

العائلة في المنظور اللَّاهوتيّ والقانونيّ للمشرّع الكنسيّ

1. مقدّمة

يسوع المسيح ابن الله الوحيد تجسَّد لينقلنا من علاقة بالنَّاموس مع الله إلى علاقة بالنِّعمة”. لأَنَّ النَّاموس يُنْشِئُ غَضَبًا، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ” (رو 4: 15). هذا هو المبدأ الَّذي نحيا بموجبه كمؤمنين، أي أنّنا إذ عشنا بمقتضى النِّعْمَة لا نحتاج النَّاموس لأنّنا نكون من أبناء العهد الجديد الَّذين قال فيهم الرَّبّ: ” أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ، قَائِلِينَ: اعْرِفُوا الرَّبّ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبّ…” (أر 31: 34 – 35).

واقع الإنسان، رغم أنّ الرَّبّ يسوع المسيح قد أتمّ الخلاص للخليقة كلّها في ذاته، هو هذا الواقع الَّذي ما يزال فيه البشر يجاهدون ضدّ اللَّحم والدَّم أي ضدّ الإنسان العتيق الَّذي فيهم، وضدّ “أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أف 6: 12). وبولس الرّسول يخبرنا “أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. (…) وَكَذلِكَ الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا…” (رو 8: 23 – 26).

هذا إنّ دلّ على شيء فهو إنّنا في هذا العالم نجاهد باستمرار، وهنا دور إرادتنا، ونعمة الله معنا لِتُعِين ضعفنا. لكن، هذا يعني، أيضًا، أنّ الإنسان لا يحيا في كمال النّعمة بل هو في مسيرة تطهير واستنارة طالما هو في الجسد، وأنّه إلى أن يتحرَّر بالموت الجسدي من عبودية ناموس الجسد فهو في حرب مستمرَّة مع هذا النَّاموس الَّذي يُدان بناموس العهد العتيق لكي ينمو في النّعمة وينعتق إلى حرّيّة أبناء الله أي أن يحيا سرّ الحبّ الإلهيِّ الَّذي قوامه محبّة الله ومحبَّة القريب.

بناء عليه، لا يوجد مكان أكثر من العائلة مطلوب أن يحيا فيه الإنسان سرّ الحبّ الإلهيّ، ولهذا يعتبر المطران جاورجيوس (خضر) أنّ العائلة ” تقوم على إرادة المحبة أي على اعتبارها واجبا إلهيًّا”[1] وأنّ “العائلة هي التّذكير بضرورة الحبّ إن ضَعُفَ”[2]، تاليًا، لا تُبنى العائلة إلّا على هذا الأساس، أي على وصيّة المحبّة الإلهيَّة. لكن، واقع الإنسان أنّه في الجهاد المستمرّ، وربّما الكثيرون قد لا يفقهون معنى الوصيّة الإلهيّة ولا يعرفون دروب الحياة الرّوحيَّة أو أنّهم متقاعصون ومقصّرون في هذا الطّريق، ممّا يجعل الزواج عرضة للمشاكل والصعوبات والخلافات بين الزّوجين وخاصّة عندما يكون الطرفان بعيدان عن حياة الكنيسة وتعاليمها وعن عشرة الكلمة الإلهيَّة وممارسة الأسرار الكنسيّة لا سيّما سرّ التّوبة والاعتراف.

من هذا المنطلق، وجب على الكنيسة إدارة الخلافات الزوجيَّة والعائليّة وتنظيم حياة الأسرة لما فيه خير الزوجين والأولاد ومعالجة المشاكل والصعوبات من خلال قانون الأحوال الشخصيّة الكنسيّ المستوحى من روح الإنجيل وتعليم الكنيسة المقدَّسة، والَّذي يتّخذ شكل الشريعة نظرًا للضرورة كون النَّاموس وجد لكشف الخطيئة و “لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ” (2 تي 3: 16)، كما لتنظيم حياة الناس لما فيه الانسجام والتآلف والتّعاون…

2. الزَّواج والعائلة من المنظار اللّاهوتيّ

الزواج وجه أساسيّ من أوجه الحياة، والأولى أن يقال أنّه الوجه الأبرز والأهمّ والأساس لها. فهو يشكّل، بيولوجيًّا واجتماعيًّا، إطار التوالد واستمرار الجنس وخليّة المجتمع الإنسانيّ. لذا، كان من الطبيعيّ أن ترتبط نظرة الإنسان إلى الزواج بنظرته إلى الحياة عامّة. فيأتي تشريع الإنسان للزواج وإبراز مزاياه ومتطلِّباته وأحكامه تعبيراً عن رؤيته لمعنى حياته وأهدافها. فيتموقع الزواج ضمن هذه الرؤية ويصبح خادماً لها ومحقِّقاً لأهدافها.

تأسس الزواج وتاليًا العائلة مع خلق الله للإنسان، إذ “خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ” (تك 1: 27). الإنسان هو شركة ذكر وأنثى، رجل وامرأة، فبعد أن جبل الله آدم من أديم الأرض رأى أنّه “لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ” (تك 2: 18)، وهنا صنع الله المرأة من ضلع آدم، الَّذي قال فيها: “هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ” (تك 2: 23)، ويردف الكتاب: “لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” (تك 2: 23).

منذ البدء، عند الخلق، أسس الله الزّواج سرَّ وَحدة وتكامل، وسرّ نموّ وتكاثر لتمتلئ الأرض من صورة الله أي الإنسان، سيِّدًا عليها، “وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، …” (تك 1: 28). إنّ سيادة الإنسان على مخلوقات الأرض إنّما هي وكالة من الله للإنسان كونه مخلوقًا على صورته. ونقرأ في الآية 26 من نفس الاصحاح: “وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا”، أي أنَّ صناعة الله للإنسان على صورته صناعة هادفة، غايتها أن يبلغ الإنسان إلى مثال الله، أن يصير شبيهًا له، وهذا الشبه ليس للرجل وحده أو للمرأة وحدها، بل هو للاثنين معًا كوَحدة وشركة على صورة الثالوث القدّوس وللشخص على صورة المسيح.

الخطيئة أفسدت صورة الله في الإنسان وشوّهتها على الصعيد الشخصيّ وعلى الصعيد الشركويّ بين الرجل والمرأة أوَّلًا، وبين أفراد العائلة ثانيًا، وبين أبناء الطبيعة البشريَّة ثالثًا. ابن الله تجسَّدَ ليصلح ما أفسدته الخطيئة في الإنسان مُعيدًا إليه بهاء “صورته” الإلهيّة الأولى في جنّة عدن ومطلقًا إيّاه ليبلغ به إلى “مثاله”، أي ليجعل الإنسان مثيلاً له في الألوهة كما صار هو مثيلًا له في الناسوت.

هنا تكمن فرادة النظرة المسيحيّة للإنسان، فالوجود الإنسانيّ وجود ديناميكيّ متحرّك وهادف لأنّ الإنسان مدعوٌّ من الله، منذ تكوينه، إلى التألُّه، أي إلى التمثُّل بالله من خلال مشاركته في مجده وأبديّته. هو مدعوّ أن يتخطّى محدوديّة طبيعته البشريّة ليبلغ لا محدوديّة الله، أي ما نسميّه “الحياة الأبديّة”. وقد دَشَّن الله لنا هذه الدعوة من خلال تجسُّده بيننا.

2.1 غاية الزّواج

تتحدَّد غاية الزواج بالنسبة للإنسان إنطلاقًا من نظرته لغاية حياته. ممّا لا شكّ فيه أنّ الوعي الإيماني والتزام الشخص بإيمانه هما في أساس مبادئ الإنسان التي يحيا بموجبها والتي تقوده في طريق حياته والتي تنبثق منها أهدافه الجوهريّة وكل الأهداف الأخرى الصغيرة والكبيرة، وخاصّة منها ما يتعلَّق بمفهومه للزواج والعائلة.

موقفان، بعامّة، يطبعان حياة الإنسان بطابع يجعل البشر متمايزين عن بعضهم البعض:

1- الأول يعتبر أنّ الحياة وما فيها تُختصرُ بما هو ماديّ ومحسوس، وأنّ الإنسان ينوجد ويحقق كيانه بمقدار استهلاكه لهذا الماديّ وهذا المحسوس. هذه الفئة من الناس تقف الحياة عندها بالموت الذي هو نهاية الوجود، حتّى ولو أعلن من يعتقد بهذه الفلسفة عكس ذلك بلسانه ولو أظهر تدّينه واعترافه اللفظيّ بحياة أخرى. ينظر صاحب هذا الموقف إلى الحياة نظرة أنانيَّة وتاليًا يرى الآخر منافساً له في استهلاك خيرات الحياة ومنافعها. من هنا تنشأ العداوات والحروب بين البشر والخصامات والخلافات والمشاكل بين الأزواج. من يفكّر هكذا يرى في الزواج جَنَّتُه بقدر ما يلبِّي إستهلاكيّته ورغباته الأنانيّة، ويصير جحيمه بقدر ما يحول دون هذه الرغبات. وهذا الموقف مناقض للإيمان المسيحيّ.

2- الموقف الثاني يجد معنى الحياة في كونها تتخطّى المنظور والمحسوس إلى الله باعتباره مصدر الحياة وغايتها ومعناها. من كان هذا موقفه يحيا بقدر ما يرتبط بالله لا بقدر استهلاكه لما في الحياة من خيرات ماديّة. والآخر، بالنسبة إليه، ليس سلعةً للإستهلاك وليس منافساً بل شريكاً له في هذه الحياة.

إيمانيًّا الحياة هبةُ محبّةٍ من الله، هي امتدادٌ لمحبّته للكنيسة التي أفتداها بدم ابنه على الصليب. ليس الإنسان مصدرًا للحياة بل متلقيًّا لها. دوره،كونه مخلوق على صورة الله، أن ينقلها إلى سائر البشر كشركاء لهُ في هذه الحياة. فالإيمان بيسوع المسيح هو الذي يعطي الحياة “فإذا آمنتم نلتم الحياة باسمه” (يو 20، 31).

من هنا، المعنى الحقيقيّ للحياة على هذه الأرض هو أن تكون فترة تمرُّس واختبار لحياة الشركة والمحبّة مع الآخر، لنُحَقِّقَ، في هذا العمر الحاضر، ومن خلال هذه الشركة والمحبّة، صورة الله التي خُلقنا، أصلًا، عليها ولنتمثَّل بالله مشاركين إيّاه بما نسمِّيه “الحياة الأبديّة”. والزواج هو المجال الحيويّ الأرحب لهذا التمرّس والإختبار من خلال عيش المحبّة في العائلة أوَّلًا، كونه يحتلّ الجزء الأكبر من عمر الإنسان وكونه يشكّل الخيار الطبيعيّ الأوسع لأغلبيّة البشر.

2.2 ماهيّة العائلة

الزواج أسَّسهُ الله كَسِرِّ وَحدةٍ بين الرجل والمرأة ليملأ بهما الأرض. قد يعتقد البعض أنّ العائلة تتكوّن عندما يصير للزوجين أولادًا من لحمهما ودمهما، لكن ليس هذا هو الشرط ليصير الزوجان عائلة. يرى المطران جورج خضر أنّ “العائلة كاملة بالرجل وزوجته أنجبا أم لم ينجبا. الله ليست العائلة همّه الأول، همّه الحبّ. التّكاثر نتيجة”[3]. هذا لا يعني أنّ الزواج لا يجب أن يثمر أولادًا، على العكس الأولاد ثمرة الحبّ الَّتي لا بدّ منها في الزّواج، لكن في حال لم يكن للزوجين أولاد من لحمهما ودمهما فهما مدعوّان إلى إِثمارٍ روحيٍّ يَنتج عنه أولادًا في المسيح من خلال عيشهما الحبّ خدمة في الكنيسة والعالم.

وصيَّة المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب هي أمر إلهيّ. بناء عليه، محبّة الرّجل للمرأة والعكس بالعكس، ومحبّة العائلة هما أمر إلهيّ. المحبّة، بهذا المعنى ليست تلقائيّة بل هي جهاد روحيّ إذ هي تمرُّس على إخلاء الذّات بين الزّوجين وفي العائلة. ليس “العشق” بين الزوجين دائم الحرارة، بل يفتر مع الزّمن ويختفي ما لم يستبدلا العشق البشريّ الّذي بينهما بالعشق الإلهيّ الَّذي أساسه المسيح، فتزداد حينها المحبّة بينهما وفي العائلة باستمرار واطّراد. الزواج، إذًا، مشروع عائلة بمعنى أنّه مُخْتَبَرُ الحبِّ ودربُه، هو مكان الارتقاء بالحبّ من العشق البشريّ إلى الحبّ الإلهيّ الَّذي هو عهد أبديّ، “وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ” (هو 2: 19). ليست المحبَّة أو الحبّ الَّذي بين الزوجين أو في العائلة مشاعر أو عواطف هي التزام عهد أبديِّ بالعدل والحق والاحسان والمراحم، أي هي عمل محبَّة وبذل لخير الآخر وبنيانه والحفاظ عليه، هذا من جهة، وهي مسيرة نحو ملكوت الله والحياة الأبديَّة أي هي عيش مع الله وتقديس للحياة بالمعرفة الحقانيَّة الّتي بالروح القدس. “وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ” (يو 17: 3)، اي أنّ الحياة في الزواج وتاليًا في العائلة هي تذوُّق للحياة الأبديَّة من خلال معرفة يسوع المسيح والله الآب بالروح القدس في خبرة عيش الحبّ التّقديسيّ كلّ يوم وكل آن…

بناء عليه، العائلة هي أيقونة سرّ الحبّ الإلهيّ الَّذي هو حركة عطاء كلّيّ مستمرّ بين أقانيم الثالوث القدّوس من الآب للابن والروح، ومن الآب للروح والابن، ومن الابن والروح نحو الاب. هكذا في العائلة، المسيح يُتْحِدُ ذاته بالرجل والمرأة في سرّ الزّواج فيصيران بوحدتهما فيه “جسدًا واحدًا”، وعبر اتّحاد الرجل بالمسيح واتّحاد المرأة بالمسيح يتّحدان مع بعضهما البعض فيه “لشركة الزواج وخلاصهما”[4]، وهذه الوحدة في المسيح تُثمرُ بالروح القدس عائلة هي “عائلة بيت الله” أي ثمارها من فعل الرّوح القدس في حياة الزوجَين، أي هي “كنيسة صغيرة”، كما يقول القديس يوحنا الذهبيّ الفم، ينبغي أن يشع منّها نور المسيح ومحبّته من خلال العطاء والخدمة والبذل والتضحية والتوبة والصلاة، الّتي ثمار الرّوح القدس في العائلة التي هي “مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ” (غل 5: 22 و23).

3. الأولاد في العائلة

في خدمة سرّ الزواج نرفع الدّعاء إلى الله من أجل العروسَين أن “يمنحا العفة وثمرة البطن لخيرهما” وأن “يفرحا بنظرهما بنيهما وبناتهما” وأن “يُمنحا التّمتّع بحُسن التّوليد وعيشة لا عيب فيها”[5]. في الافشين الأول من خدمة الاكليل تشدِّد الكنيسة أيضًا على بركة الله على الآباء من ابراهيم إلى اسحق ويعقوب وصولًا إلى والدة الإله الّتي منها تجسَّد الرَّبّ، حيث تتجلّى هذه البركة بثمرة البطن والنسل المبارك، وترفع الكنيسة الدعاء إلى الله أن يبارك العروسين ويمنحهما “نسلًا طويل العمر ونعمة التوليد وإكليل المجد الذي لا يذبل”.

صلاة الكنيسة أن يمنح الله ثمرة البطن للعروسين نجدها في كلّ الأفاشين من خدمة العرس. كلّ هذا يدلّ على أهميّة النّسل في حياة الزّوجين وارتباط هذا الأمر بقداستهما وشهادتهما لمحبَّة الله في حياتهما. الولادة ترتبط بحسن التربية كون الأولاد هم ثمرة الحبّ المرفوعة من الزّوجين إلى الله تقدمة شكر على نعمة الله عليهما في المسيح يسوع بالروح القدس.

واجبات الأهل نحو أولادهم هي أن يربّوهم على الإيمان بالقدوة والمعرفة، وأن يشركوهم في حياة الكنيسة بالصلاة الخاصة والجماعية والخدمة. كما عليهم تأمين حياة كريمة لهم. هذا كلّه يكون في المحبّة التي “تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ … وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، … وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا …” (1 كو 13: 4 – 8)[6].

العائلة مصنع قداسة، هكذا يجب أن تكون، وهذا يفترض أنّ الأهل يسعون إلى هذا الهدف في حياتهم وحياة أولادهم. تربيتهم هدفها التّقديس. هذا هو الأساس للعائلة المسيحيَّة، إن لم ينوجد فلا يوجد عائلة مسيحيّة ولو كان المعنيّون “مسيحيين” اجتماعيًّا وملتزمين الطّقوس كواجب…

4. من المنظور اللّاهوتيّ إلى المنطور القانونيّ: الزّواج والعائلة

تهدف القوانين الكنسيَّة الخاصة بالأحوال الشخصيّة إلى تحديد الأوصاف وتنظيم الأوضاع الاجتماعية التي تميّز الأفراد بعضهم عن بعض في المجتمع الذي يعيشون فيه ككونهم مواطنين أو أجانب راشدين أو قاصرين – عازبين أم متزوّجين.

لا شكّ أنّ الزّواج سرّ من أسرار الكنيسة، وهذا بطبيعته يجعله أسمى من القوانين الوضعيَّة، لكن مع ذلك يتّخذ الزواج صيغة العقد كونه يوثّق ارتباطًا قانونيًّا بين طرفين هما الرجل والمرأة، وهذا العقد له تاليًا شروطه القانونيَّة لانعقاده وانفكاكه، رغم أنّ الرَّبّ يسوع يقول صريحًا أنّ من يتزوّجان “لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ” (مت 19: 6). صحيح إنّ ما يجمعه الله لا يستطيع أحد تفريقه، لكن من لم يجمعهما الله يفرقهما الإنسان، ولو تزوّجا في الكنيسة، لأنّ السّرّ ليس سِحْرًا بل هو عمل مشترك وبالتآزر بين الإنسان ونعمة الله، بين طاعة الوصيّة بإرادة حرَّة وعطيَّة الوَحدة في المسيح…

من هنا تأتي أهميّة قوانين الأحوال الشخصيَّة لتأمين صحّة شروط الارتباط بين الرجل والمرأة بما يتناسب مع لاهوت الكنيسة، هذا من جهة، وبما ينسجم مع واقع الإنسان في العالم كونه في مسيرة إلى القداسة مرتبطة بجهاده وطهارته ومعرفته لله وعيشه لايمانه. لذا، وجه آخر من وجوه قانون الأحوال الشخصية هو تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة والأولاد والعائلة بشكل عام، ودائمًا مع الأخذ بعين الاعتبار ما يختصّ بحقيقة الإنسان وواقع سقوطه وتوبته.

لا شكّ أنّ القوانين تتطوّر كونها وضعيَّة ومرتبطة بالزمان والمكان والثقافة التي توجد فيها الكنيسة، لكن في كلّ الأحوال لا بدّ من أن تنسجم هذه القوانين مع إيمان الكنيسة وتعليمها بما يختصّ بنظرتها إلى الإنسان ككل، والرجل والمرأة، ومفهوم الزواج والعائلة، والأمانة الزوجيَّة والعفّة والمسامحة والتوبة وكلّ ما يتعلّق بمسيرة الإنسان نحو غاية الزواج الأساسيّة الّتي هي القداسة…

4.1 الخطبة

الخطبة هي اتفاق مرحليّ بين ذكر وأنثى على الزواج المستقبل. وتُكرَّس الخطبة الكنسيّة بصلاة العربون من الكاهن القانوني. لا شكّ أنّ أيّ ارتباط زواج بين شاب وفتاة يحتاج أن يتعارفا قبلًا معرفة عميقة، وأن يكون بينهما انجذاب. الخطبة الكنسيّة تؤمّن الفرصة لتكون هذه العلاقة بالبركة. لا داعي أن تكون الخطبة الكنسيّة مباشرة بعد التعارف الأوّل. هي خطوة بالأحرى نحو تكريس أوّلي لالتزام الطرفين ببعضهما البعض ببركة الرب.

في صلاة العربون، تتوضَّح أهداف الخطبة وهي أن تبنى محبّة كاملة وروح تعاون بين الخاطبَين، وأن يُحفظا في الاتفاق والايمان الوطيد، وان يصانا بعيشة وسيرة لا عيب فيهما، وأن يصلا بنعمة الله إلى العرس بكرامة ومضجعهما لا دنس فيه، وأن يمنحا في الزواج أولادًا لخلافة الجنس وكلّ ما يطلبانه للخلاص[7].

الخطبة أيضًا على صورة خطبة المسيح للكنيسة العذراء التي من الأمم. وهي اتّحاد في سلام واتّفاق[8]. الخطبة وعد بالزواج مبنيّ على ما يقوله به كلّ من الطرفين، ولذلك، تصلّي الكنيسة لثبات هذا الوعد وتبارك العربون، “أنت (يا رب) بارك عربون عبدَيك وثبّت القول الذي تكلّما به وشدّدهما بالاتحاد المقدّس الذي منك (…) وثبّت عربونهما بالامانة والاتفاق والحق والمحبة”[9].

لذلك، وللحفاظ على هذه الروح في الخطبة تشترط الكنيسة لإقامة الخطبة الرضى الصريح بين الخاطبين، أي هو عمل حرّ واختيار طوعيّ من الطرفين. فلا يمكن أن ينوجد حبّ أو ينمو في المسيح دون الرغبة المتبادلة الحرَّة بين الطرفين. هذا يفترض أن يكون كلّ من الخاطبين بالغًا سنّ الرّشد، وأن يكونا في مرحلة نضج نفسي وروحيّ ظاهرة. أحيانًا قد تنشأ بين قاصرَين علاقة جِدّية يجوز بموجبها، إن لم يكن من تعارض مع القانون العام، إقامة الخطبة بين قاصرَين لم يبلغا سنّ الرشد، على أن يكونا مؤهّلين نفسيًّا وجسديًّا، وألّا يكون الخاطب دون السابعة عشرة والخاطبة دون السادسة عشرة من العمر، مع مراعاة حالة البنية والصحّة، بموجب شهادة طبّيّة ونفسيّة، وموافقة الوليّ أو الوصيّ. هذا الشرط مهمّ جدًّا لئلًا تساهم الكنيسة في رباط يفتقد إلى الأسس المطلوبة للثبات والاستمرار، مع التأكيد أنّ الزّواج لن يقوم قبل سنّ الرشد.

طبعًا، الزواج الكنسي يحتاج إلى إذن رسمي من راعي الأبرشيّة، وهذا يفترض أن يبرز كلّ من المزمعَين على الخطبة ما يثبت هويّته الشَّخصيَّة وشهادة عماده وإطلاق حاله من رئاسته الروحيّة والشهادة الصحيّة وفقًا للقوانين المدنيّة المرعيّة الإجراء. وإذا كان أحدهما مرتبطًا بزواج سابق قد انفكّ، يتوجّب إبراز نسخة طبق الأصل عن الحكم بانفكاك الزواج وما يثبت تنفيذه لدى دوائر الأحوال الشَّخصيَّة. كما أنّه لا بدّ من التأكّد من عدم وجود أي مانع من موانع الزواج.

4.2 الزّواج

الزّواج سرّ من أسرار الكنيسة، وإن اتَّخذ قانونًا صيغة العقد، يتمّ بموجبه اتّحاد رجل وامرأة ليتعاونا على الحياة الزوجيّة وحمل أعباء العائلة وتربية الأولاد. والإنجاب ثمرة من ثمار الزّواج وليس هدفًا له.

هدف الزّواج إنشاء عائلة، والعائلة هي شركة حبّ تترجم بالتعاون بين الرجل والمرأة في كلّ أمور حياتهما وعائلتهما. هذا هو طريق القداسة، البذل والعطاء، فالمحبّة هي خروج من الذّات وإخلاء للنّفس لأجل الآخر. هذا التّعاونُ والحَمْلُ المشترك لأعباء الحياة وتربية الأولاد يصير بالخضوع المتبادل بين الرجل والمرأة لبعضهما البعض في مخافة الله، اي بطاعتهما المتبادلة (راجع أف 5: 21). الأساس أن يكون المسيح حاضرًا بين الزوجين وأن يكون هو مصدر وحدتهما واتّحادهما حقيقة عبر التصاق كلّ منهما به.

في أفاشين خدمة سر الزواج المقدس تشدّد الكنيسة على مسألة أن “يترك الرجل أباه وأمّه ويلازم امرأته”[10] لكي تؤكِّد أنّه لا بدّ أن ينشأ كيان جديد من الاتّحاد بين الرجل والمرأة غير الكيان الذي لوالديهِما أي لعائلتَيهما اللتين خرجا منهما. كما تشدِّد الكنيسة في هذه الصلاة على أهميّة صلاة الوالِدِين لتثبيت أساسات البيوت وعلى التربية الّتي قام بها الأهل حتى وصل أولادهم إلى أن يقوموا بدورهم بإنشاء عائلة. العائلة الجديدة التي تنشا في الزواج هي مشروع بذل وعطاء وتضحية، وهذه الثلاثة هي مصدر فرح للرجل والمرأة إذا كان الحبّ بينهما مبنيّ على الوحدة في الرب يسوع المسيح وعلى بركته المتنزّلة عليهما في السّرّ.

لأنّ الزواج يتّخذ صيغة عقد فله أصول يجب اتّباعها لعقده وحلّ صعوباته أو فكّه.

4.2.1 شروط الزَّواج

لا بدّ من شروط أساسيّة لضمان وجود المبادئ المطلوبة لإمكانية تأسيس عائلة مسيحيّة في الزواج. ومن أهمّ هذه الشروط هي الانتماء الكنسيّ والأهليّة الصحية نفسًا وجسدًا والاختيار الحرّ بين طالبي الزّواج. طبعًا لا بدّ من عدم وجود أيّ مانع من موانع الزواج كدرجات القُربى أو الأهليَّة العقليَّة وما إلى هنالك من موانع يحدّدها القانون لكي يحفظ للزواج قدسيّته وأساسيّات نجاحه واستمراره. طبعًا، لا بدّ من إتمام كلّ هذه الشروط مع تقديم كلّ ما يلزم من أوراق رسميّة تثبت الأحوال الشخصيّة لطالبَي الزّواج للاستحصال على إذن مسبق من راعي الأبرشيّة أو من ينتدبه، وأن يسجّل الإذن في سجلات المطرانيّة حيث سيقام الإكليل.

بعد ذلك، يمكن إقامة صلاة الإكليل في الكنيسة من قبل كاهن قانوني مصرح له. حضور طالبَي الزواج شخصيًّا صلاة الإكليل أمر إلزاميّ وجبريّ.

4.2.2 في أحكام الزّواج

4.2.2.1  في تنظيم العلاقة بين الزّوجين

إنشاء كيان جديد في الزواج أو كنيسة صغيرة يفترض أن يقيم الزوجان معًا في المنزل الزوجيّ المستقلّ. هذا اساسيّ في ايّامنا لتحقيق الانفصال عن الأهل من ناحية لأجل تحقيق الوحدة والشركة وإنشاء عائلة جديدة.

أحيانًا، قد يضطر أحد الزوجَين إلى مغادرة البيت الزوجي لأحد الأسباب التالية:

أ) للإقامة في مسكن آخر أكان في البلد عينه أم في بلد آخر بالتوافق الصريح بين الزوجين، ويجب أن تكون الأسباب مرتبطة ببناء العائلة أو تأمين المعيشة؛

ب) لأيّ سبب مستصوب أو خوفًا على سلامة أحد الزوجين أو الأولاد النفسيّة أو الجسديّة أو الأخلاقيّة، وهذا يكون بسبب مشاكل أو صعوبات زوجيّة، ويجب أن يكون تقدير صوابيّة أسباب التبرير عائدة إلى المحكمة الروحيّة. وفي هذه الحال، على من يغادر المنزل الزوجيّ أن يقيم في مكانٍ لا شبهةَ فيه، للحفاظ على العفة في الزواج ولأجل العمل على إصلاح الحال.

عند تطوّر الخلافات بين الزوجين وعدم نجاع المساعي الصلحيّة، تُحال المسألة إلى المحكمة الروحيّة البدائيّة من أحد الزوجين، لمحاولة إكمال السعي لاصلاح ذات البين بين الزوجين، من جهةن ومن أجل تحديد المسؤوليَّات وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

تتيح الكنيسة في قانونها لكلا الزوجين، في حال الخلاف وترك أحدهما للمسكن الزوجي، طلبَ الآخر لمتابعته حيث يقيم في المسكن الزوجي استمراراً للحياة الزوجية المشتركة ومحافظةً منه على ديمومة الحياة الزوجية. طبعًا، الحفاظ على رباط الزّواج أساسيّ، ولهذا يمكن للمحكمة الروحية أن تتخذ قرارًا كهذا بناء على طلب أحد الطرفين، على أن يترافق هذا مع رعاية من كاهن الرعية أو من جهات أخرى تحددها المحكمة الروحيَّة. فالهدف الأوّل والأساسي دائمًا عند المحكمة الروحيّة هو الحفاظ على العائلة، مهما تقدّم الخلاف بين الزوجين.

تخضع لتقدير المحكمة الناظرة في أساس النزاع، مسألة ملاءمة المسكن الزوجي للحياة الزوجية المشتركة، وليس ما يمنع قانوناً من أن يكون هذا المسكن مملوكاً من طالب المتابعة أو مستأجراً من قبله. المهم في حالات النّزاع أن تبقى العائلة ضمن أوضاع نفسيّة ومادّية مستقرّة، ممّا يخفّف من الأضرار على علاقة الأولاد مع والديهم، ويقلل من التصعيد بين طرفي النزاع. وفي حال عدم ملاءمة المسكن للحياة الزوجية المشتركة فهذا يعتبر مبرّراً للحكم بالنفقة، بناء على الطلب.

طبعًا، لا تلزم المرأة الأرثوذكسية تغيير دينها أو مذهبها إذا اختلف عن دين زوجها أو مذهبه أو إذا تخلّى زوجها عن مذهبه الأرثوذكسيّ، أي في حال الخلافات بين الزوجين وإذا ابدل الرجل دينه، فهي غير ملزمة باتباعه وحقوقها تبقى محفوظة بحسب القانون الكنسي للأحوال الشخصيّة.

4.2.2.2  تنظيم أوضاع الأولاد أثناء الّنزاع بين الوالدَين (تربية الأولاد وحضانتهم وحراستهم)

من المهمّ جدًّا، في حال الخلاف بين الزوجين أن يبقى الأولاد خارج التجاذب بين الأهل وأن لا يصيروا متراسًا يتلطّى وراءه الزوجَين، لما لهذا الأمر من ضرر وأذى لهم ولحياتهم المستقبليَّة. لذلك، طبيعيًّا على الوالدَين أن يتعاونا على تربية أولادهما والإنفاق عليهم بما يؤمن لهم حياة كريمة ولائقة.

للأسف، عند انحلال الروابط الزوجيَّة أو خلال الخلاف الزوجي والمحاكمة تظهر حقيقة من يحبّ أولاده حقًّا ويهتمّ لصالحهم. على المحكمة أن تحاول وتسعى خلال هذه المرحلة أن تراعي أوّلًا وآخِرًا مصلحة الأولاد في تحديد من يُولّى تربيتهم، ويترك تقدير ذلك وفقًا لظروف كلّ قضيّة، بحسب ما تراه المحكمة مناسبًا. في كلّ الأحوال كلّ خلاف وانفصال بين الزوجين سيترتّب عليه آثار نفسيّة وروحيّة أقلّه على الأولاد. لذلك، يجب أن يزداد اهتماه الكنيسة بالأولاد في العائلات المفككة أو المعرّضة للتفكّك.

كون الوالد هو المسؤول الأول عن معيشة العائلة وعن استقرارها على مختلف المستويات، وكون الأولاد يحملون اسمه واسم عائلته، لذلك يقيم الأولاد عند والدهم بحكم ولايته الجبريّة عليهم، وللمحكمة أن تقرّر إقامتهم عند والدتهم متى وجدت في ذلك مصلحة لهم، كما في الحالات التالية:

أ) عند الحاجة إلى حضانة الأمّ حتّى سنّ الخامسة عشرة للذكر وللأنثى معًا. وعند بلوغ المحضون، ذكرًا كان أو أنثى، السنّ المذكورة أعلاه فللمحكمة أن تستمع إليه على سبيل الإســــــتئنـــاس ولــــها أيضاً أن تستعين بالخبرة النفسية أو الإجتماعية قبل إصدار قرار الحراسة بحسب ما تراه موافقًا.

ب) عند وقوع انفكاك الزواج بين الوالدين، على مسؤوليّة الوالد.

ج) عند وجود أسباب مشروعة تنفي عن الوالد أهليّته لتربيتهم.

من البديهيّات أنّه يُشتَرَط في الحاضن البلوغ والعقل والقدرة على تربية الولد والمحافظة على صحّته وخُلقه.

طبعًا، قرارات المحكمة في مسائل الحضانة والحراسة قابلة لإعادة النّظر وذلك تبعًا لتغيّر الظّروف. لذا، يسقط حق الحضانة أو الحراسة في الحالات التالية:

أ) العجز أو التقصير الفادح من الحاضن أو الحارس في التربية والرعاية.

ب) زواج الحاضن أو الحارس إذا ألحق ضررًا بالقاصر، على أن يعود للمحكمة تقدير أثر الضرر ومداه.

ج) إعتناق الحاضن أو الحارس دينًا آخر.

د) إذا كان سلوك الحاضن أو الحارس يسيء خُلقيًّا أو نفسيًّا إلى القاصر.

ه)إذا تعمّد الحاضن أو الحارس عرقلة عمليّة مشاهدة القاصر أو اصطحابه أو عارض تنفيذها.

و) إذا ثَبُتَ أنّ الحاضن أو الحارس قام بتشويه صورة الوالد(ة) لدى القاصر.

ز) إذا أقحم الحاضن أو الحارس الأولاد طرفًا في النزاع القائم بين الوالدين.

ح) إذا أقدم الحاضن على ترك المحضون، ومغادرة مكان إقامة المحضون دون سبب مشروع.

طبعًا، في حال زالت أسباب سقوط الحضانة فإنّ حقّ الحضانة يعود للحاضن. كما أنّه لا يجوز للحاضن أو للحارس أن يسافر بالقاصر من دون موافقة الطرف الآخر أو من دون قرار من المحكمة. ويمكن للمحكمة أن تفرض ضمانات عند الاقتضاء.

العائلة لا تقتصر على الأب والأم، ومن المهمّ إبقاء علاقة الأولاد عائلات والديهم، لذا ضروري أن يلحظ القانون إمكانية يشاهد القاصر جدّه أو جدّته أو أعمامه وعماته أو أخواله وخالاته، في المكان الذي تحدّده المحكمة، لما لهذا الأمر من أهميّة على الصعيد النفسي والروحي للقاصر، كما للمحكمة أن تقرر اصطحاب القاصر وفقًا لآليّة وجدولٍ زمنيّين تحدّدهما تبعًا لعمر القاصر وحاجته إلى أيّ من طالبي المشاهدة. ولتسهيل الأمور وتيسير المشاهدة يمكن لرئيس المحكمة عند المعارضة في تنفيذ قرار المحكمة بالمشاهدة والاصطحاب، بصفته قاضيًا للأمور المستعجلة، تحديد طريقة التنفيذ وآليّته وتقييده بضمانةٍ كافية، وذلك بقرارٍ يصدره بموجب أمر على عريضة.

للأسف، يوجد حالات قد تجد فيها المحكمة أنّ الوالدَين غير صالحَين لتربية الأولاد والمحافظة عليهم، فلها عندئذ أن تأمر بوضعهم لدى جهة مؤهّلة لرعايتهم وتربيتهم بإشراف من المحكمة، حسبما تراه موافقًا لمصلحتهم. لذان من المهمّ بمكان أن يكون لدى الكنيسة مؤسسات مختصّة للقيام بهذه المهمّة الجوهريّة.

4.2.2.3  معيشة الزّوجة والأولاد في حال الخلاف او انفكاك الزواج

من أسس الأخلاق المسيحيّة النابعة من الحقّ والمحبّة الّتي يتوجّب على الزوجين المسيحيين الحفاظ عليها بالأكثر حين يكونان على خلاف أو حين انفكاك الزواج بينهما هي مسألة تأمين المعيشة اللائقة للطرف المستحقّ للنفقة. من هنا، فالنفقة  هي المبلغ المتوجّب أداؤه لمستحقّ، لأجل السكن والملبس والمعيشة وصون الكرامة والتعليم والتربية والتطبيب وخدمة العاجز، وهي من النظام العام ومتعلّقة بحقّ الحياة. وتتوجّب النفقة على الزوج لزوجته ما دامت صلة الزواج قائمة بينهما. أمّا نفقة الأولاد فتقع على أبيهم ثمّ على أمّهم ثمّ على إخوتهم ثمّ على جدّهم لأب ثمّ على جدّهم لأمّ. النفقة، تاليًا، هي التّعبير عن الالتزام الإيماني-الأخلاقي العائلي من المسؤول في الأهل للمستحقّ.

أصحاب الحق بالنفقة هم:

أ) الزوجة على الزوج، وعند الاقتضاء الزوج الـمُعسِر على الزوجة الموسِرة.

ب) الأولاد على أبيهم، طالما هم بحاجة لإعالته، وفي حال إعساره على أمّهم الموسرة، وبوجه عام على الوالدين والأصول والأقرب فالأقرب من ذويهم الموسرين.

ج) الوالدان المعسِران على أولادهما والأقرب فالأقرب من ذويهما الموسِرين.

د) الابن الطبيعيّ على أمّه، وبالعكس.

هـ) الإخوة والأخوات المعسِرون على إخوتهم وأخواتهم الموسِرين.

النفقة بهذا المعنى هي تعبير عن الالتزام بالآخَر بما يرضي الله وبما تفرضه المحبّة والمسؤوليَّة الإيمانيّة والأخلاقيَّة، وهي بهذا المعنى خروج من الذات لأنّها تَعَالٍ على الجراح وتعبير عن التوبة والسعي للمصالحة والمسامحة.

في حال لم يستطع المتخاصمين الاتفاق والتفاهم على النفقة، عندها يعود للمحكمة أن تَفرضها قضاءً على نسبة احتياجات طالبها واستطاعة المكلَّف بها، مع ضرورة مراعاة المستوى المعيشيّ الذي كان منتهجًا قبل نشوء الخلاف، وتُراعى في إقرار قيمتها قدرة المكلَّف بها راهنًا، على أن يكون ذلك مستنداً إلى أسس ثابتة تثبت دخل المكلّف. في هذا محاولة للعدل بين المتخاصمين، ولكن هذا يعتمد أيضًا على مدى معرفة حقيقة واقع الأمور عند الطرفين.

وفي حال صدور قرار من المحكمة بانفكاك الزواج تستمرّ تأدية النفقة للزوجة لحين تنفيذ الحكم بالانفكاك في دوائر الأحوال الشَّخصيَّة، وهذا ايضًا من العدالة والانصاف لأنّه طالما الزوجة ما زالت على اسم زوجها فهو مسؤول عن تأمين معيشتها.

واجب الوالد بالانفاق على أبنائه يبقى قائمًا إلى سنّ الرشد أو طالما الأولاد يحتاجون إلى ذلك. ففي الحالات الطبيعيّة حين تكون العائلة قائمة يهتمّ الأهل بمعيشة وتعليم أولادهم حتى أثناء الدراسة الجامعيّة طالما الأولاد هم بحاجة إلى الانفاق عليهم، ومن العدل أن يبقى الهل يقومون بواجبهم نحو أولادهم حتى ولو انفك رباط الزوجية بين الوالدين، فهذه ترجمة للمحبّة الأبويّة المسيحيّة الحقيقيّة والتي لا تجعل الأولاد يدفعون ثمن خلافات أهلهم.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى السلطة الأبويّة والولاية الجبريّة للأب على أولاده والّتي هي مجموع الحقوق والواجبات التي للأب على أولاده من الزواج أو من التبنّي، ما داموا في كنفِ أبيهم ولم يبلغوا سنّ الرشد. للوالد، وبولايته الجبريّة على أولاده، حقوق وواجبات الوصاية والتي غايتها حسن تربية الأولاد وتأمين رعاية وحياة كريمة لهم، وهي قائمة في ما يلي:

أ) في أن يعول الأب أولاده بنسبة حال أمثاله، ويربّيهم التربية الدينيّة والإجتماعيّة اللائقة.

ب) في أن يصلح حالهم ويؤدّبهم بقدر ما تسمح به القوانين المدنيّة والعرف والعادة ودواعي العدل والإنصاف.

ج) في أن يقيم لهم وصيًّا مختارًا عند الحاجة إلى ذلك.

د) في أن يدير بحسب ولايته الجبريّة أموالهم، بما يخدم مصالحهم، حتى بلوغهم سنّ الرشد.

وتُبطل السلطة الأبويّة عن الإبن أو الإبنة عندما يبلغان سنّ الرّشد ويستقلان في المعيشة أو عندما يجرّد الأب من الأهليّة لأسباب قانونيّة مثبتة، أو عند وفاته.

4.2.2.4  الهجر كوسيلة لاصلاح ذات البين

لا تتوقّف المساعي الصلحيّة حتّى أثناء المحاكمة، لأنّ الكنيسة لا تألوا جهدًا لكي تصلح كلّ خلاف وتساعد الزوجين على التوبة والعودة إلى المصالحة بناء على الوصيّة الإلهيَّة. من هنا فالهجر هو قرار قانوني للمحكمة وتدبير مؤقت يستقلّ فيه كلّ من الزوجين عن الآخر في المسكن والمائدة والمضجع. والهدف منه إصلاح الحال بين الزوجين تمهيدًا لإعادة الحياة الزوجيّة المشتركة إلى مجراها الطبيعيّ. ويكون ذلك بإشراف المحكمة أو من تنتدبه لذلك، أكان إكليريكيًّا أو من ذوي الإختصاص. ويطلب إلى من تنتدبه المحكمة عند انتهاء مهمّته، أو عندما يُطلب إليه، أن يرفع تقريرًا إلى المحكمة عمّا آلت اليه حالة الزوجين. هذا تدبير يبقى لحكمة المحكمة أن تتخذه إذا رأت ذلك مناسبًا وأنه ما زال يوجد فرصة للمصالحة، لأنّ المصالحة هي غلبة المحبَّة وانتصار التواضع. لذلك، للمحكمة، وبناء على تقديرها، أن تحكم بالهجر، حتى ولو لم يُطلب منها ذلك.

تستند المحكمة في إقرار الهجر المؤقّت على وجود أحد الأسباب التالية، على سبيل المثال لا الحصر:

أ) الخصومات اليوميّة.

ب) الخلافات ذات الأهمّـيّة.

ج) تعذّر الاشتراك في المعيشة الواحدة ولو مؤقّتًا.

د) وجود خطر على أحد الزوجين من الآخر.

طبعًان الهجر له مدّة محدَّدة ومرتبط بنتائج المساعي الصلحيَّة. لكن من المهم التاكيد أنّه خلال مدة الهجر  على الزوج تأمين المسكن الشرعيّ أو بدله لزوجته ولأولادهما بما يتناسب مع حال أمثاله. فإذا امتنع تأمره المحكمة بمغادرة البيت الزوجيّ وإبقاء الزوجة فيه لتعيش مع الأولاد، إلّا إذا كانت الزوجة هي المسبّبة بحالة الهجر فللمحكمة أن تتخذ عندها الإجراء الذي تراه مناسباً بحقّ الزوجة. العدل البشري لا بدّ أن يقترن مع الحكمة الروحيّة لقضاة المحكمة لكي تكون القرارات في كلّ حال لصالح إصلاح الإنسان ومساعدته على التوبة وللحفاظ، قدر الإمكان، على الرباط العائلي.

4.2.2.5  انفكاك الزواج وتوصيفاته وأسبابه

تنفكّ الرابطة الزوجيّة بالوفاة أو بإعلان بطلان الزواج أو فسخه أو بالطلاق، وذلك بموجب حكم مبرم من المحكمة الروحيّة المختصّة. طبعًا، هذا آخر أمر تريد الكنيسة أن تصل إليه في مساعيها للحفاظ على العائلة، ولكنّ الواقع يفرض ذاته، وما قرار انفكاك الزواج الذي يصدر عن المحكمة الروحية سوى إعلان لحقيقة أنّ الحياة الزوجية غير ممكن استمرارها، ولكن مع ذلك تسعى الكنيسة من خلال قرارت المحكمة إلى الحفاظ ما أمكن على الروابط العائليّة بين الأهل والأولاد بافضل طريقة ممكنة للحفاظ على الصحة النفسيّة للأولاد. وهنا تكمن أهمية الروح الإنجيليَّة والكنسيَّة في القوانين التي تحكم في هذه المسألة.

من هنا، لا يصحّ انفكاك الزواج بين الزوجين لمجرد رضاهما المتبادل. الرضا مطلوب لعقد الزواج وليس لانفكاكه، لأنّ الانفكاك مرتبط، عامّة، بضعف الإنسان وفشله في عيش المحبّة المسيحيّة والانجيليّة وبعدم توبته واصلاحه لنفسه اوَّلًا. لذلك، حرّم الشرع الأرثوذكسي ومنع الزوجَين من الاتفاق على انفكاك الزواج، ومن باب أَوْلَى على انفكاكه لإرادة أحدهما المنفردة .كذلك، كان لا بدّ من تدخّل السّلطة القضائيّة الرّوحيّة في أمره وإصدار حكم في شأنه .

يوجد ثلاث حالات لانفكاك الزواج عدا عن الوفاة وهي: الإبطال والفسخ والطلاق.

  • إبطال الزَّواج

يبطل الزواج إذا انعدم ركن من أركانه، وذلك بعدم توافر شروطه اللازمة لانعقاده صحيحًا. والعقد إذا لم يستوفي شروطه القانونية واللازمة كان باطلًا بطلانًا مطلقًا كما لو تمّ في غير شكله الدّينيّ الّذي فرضته الكنيسة أو لأي سبب من الأسباب الأخرى المانعة لعقده.

  • الطّلاق

كان الطّلاق لا يتمّ إلاّ لعلة الزنى . فقد ورد في الانجيل المقدس ( متى 5 : 32 ) قول السيد المسيح له المجد: “من طلّق امرأته إلّا لعلّة الزّنى يجعلها تزني ومن تزوَّج مطلَّقَة فإنّه يزني”. وكذلك في ( متى 19 :9 ): “وأقول لكم إنّ من طلّق امرأته إلّا بسبب الزّنى وتزوّج بأُخرى يزني. والذي يتزوّج بمطلَّقَة يزني”. ثمّ توسّع مفهوم الزّنى فشمل حالات متعدّدة نصّ عليها وهي من أسباب الطلاق ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أ) إقامة أحد الزوجين وشخص آخر لعلاقة مشبوهة على المستوى العائليّ أو العمليّ أو الاجتماعيّ، في إطار زمنيّ أو مكانيّ غير مألوف.

ب) اعتماد وسائل التواصل الإلكترونيّ أو العالم الإفتراضيّ لإقامة علاقات غير مشروعة، وإن كانت عن بُعْد.

ج) اعتماد وسائل الكذب أو الخداع لإخفاء العلاقات غير المشروعة أو لإظهارها على غير حقيقتها.

ويعتبر ما هو بحكم الزنى، على سبيل المثال لا الحصر، ما هو مبيّن في البنود التالية، ويعود للطرف المتضرِّر أن يطلب طلاق زوجه على أساسها:

أ) إذا طلب إليه الزوج مرارًا عدم التردّد إلى مكان تغلب عليه السمعة السيّئة، أو معاشرة أناس سيرتهم غير حسنة، ولم يمتنع.

ب) المبيت خارج بيت الزوجيَّة من دون رضا الشريك في مكان مشتبه به.

ج) إذا ادّع على شريكه بأنه ارتكب الزنى ولم يقم البيّنة على صحّة ادعائه.

د) إذا ثبت انحراف الشريك جنسيًّا.

لا شكّ أنّ هذه الأسباب وغيرها، ربّما، تدلّ على سقوط روحيّ، واستمرار العائلة بوجود حالة الزّنى وما شابه هي تدمير لها ولصورة الزواج كما تدمّر اولاد نفسيًّا. من هنا يصير  انفكاك الزواج اقل الشرور ضررًا. ومع ذلك، إن تمكّنت المحكمة بواسطة الرعاية الكنسيّة من إصلاح ذات البين فهذا افضل لأنّ فيه ربح للعائلة وقيامة للخاطئ، وهذا أعظم من إقامة الموتى كما يقول القدّيس اسحق السوري.

لذلك، لا تُسمع دعوى الطلاق من أحد الزوجين بعد أن صفح عن الآخر صراحةً أو ضمنًا، إلّا إذا كان سبب الطلاق قد حدث بعد تاريخ الصفح.

  • فسخ الزّواج

قد يتم عقد زواج صحيح بين الزوجين، ثم يظهر سبب من الاسباب التي تستلزم الفسخ، فيقوم الزوج الآخَر الذي له مصلحة الفسخ أمام المحكمة الروحية التي تحكم به إذا ما توافرت أسبابه وأدلّته ويكون لقرار الفسخ هذا أثره من تاريخه للمستقبل ولا يمتدّ رجوعًا بالنسبة للفترة السّابقة . ومن أسباب الفسخ ما يلي:

أ) إذا اعتنق أحد الزوجين دينًا آخر.

ب) إذا حاول أحدهما القضاء على حياة الآخر، شرط أن يتمّ إثبات ذلك بشتّى وسائل الإثبات.

ج) إذا حُكم على أحدهما بسبب جرم شائن بعقوبة السجن مدّة لا تقلّ عن ثلاث سنوات.

د) إذا أهمل أحد الزوجين أمر الآخر مدّة سنتين متتاليتين، سواء كان غائبًا عن محلّ إقامته أو مقيمًا فيه، ولم تنجح المحكمة في إقناعه بالرجوع إلى الحياة الزوجيّة، على أن تسري المهلة المذكورة ابتداءً من تاريخ إبلاغ أحد الطرفين كاهنَ الرعيّة أو الرئاسة الروحية رسميًّا بنشوء الخلاف، على أن يبرز أحد الزوجين إفادة من الكاهن أو من الرئاسة الروحية تثبت ذلك.

هـ) إذا حكمت المحكمة بالهجر لمدّة أقصاها سنتين ولم تنجح المساعي المبذولة لإعادة الشركة إلى الحياة الزوجيّة، شرط تقدّم أحد الطرفين بدعوى جديدة.

و) إذا تعمّد أحدهما، من دون موافقة الآخر، عدم الإنجاب بأيّة وسيلة كانت أو امتنع عن المعاشرة الزوجيّة بلا مبرّر أو أسباب مشروعة يعود تقديرها للمحكمة.

ز) إذا مارس أحد الزوجين على الزوج الآخر، أعمال العنف المادّيّة و/أو المعنويّة الموصوفة أو فرض عليه قيودًا أو شروطًا معيشيّة تعسّفيّة.

ح) إذا اعتاد أحد الزوجين على تعاطي المخدّرات أو أدمن على المسكرات أو ألعاب الميسر، أو ما شابه ذلك، على أن يتمّ إثبات ذلك بشتّى الوسائل.

ط) إذا تبيّن أنّ أحد الزوجين غير قادر على تحمّل مسؤوليّات الزواج لأسباب ذات طبيعة نفسيّة، ويشكّل سلوكه خطرًا على من يعيش معه، على أن يتمّ إثبات ذلك بالخبرة النفسيّة.

ي) إذا حكمت المحكمة على أحد الزوجين بأن يعود إلى الحياة الزوجيّة أو إلى البيت الزوجيّ وعيّنت له مهلة للعودة ولم يعُدْ ولم يقدّم عذرًا مقبولاً.

ك) إذا غاب أحدهما وثبتت غيبته بموجب حكم قضائيّ.

كما هو واضح، فإنّ أسباب الفسخ مرتبطة بحالة عدم الاستقرار العائلي بسبب الابتعاد عن الله وعن التصاق الزوجين ببعضهما البعض في شركة المحبّة النقيّة النابعة من الإيمان، وبالتالي وقوعهما في شَرَكَ الأنانيّة والكبرياء والشهوات المختلفة والعبوديَّة للأهواء. ما لم ينجح الطرفان بالعودة إلى الله بالتوبة فلن تستقيم حياتهما، زما لم يكن مبدأ التوبة أساسيًّا في حياتهما فسوف تبقى الخطيئة مسيطرة، ولن يقوى القوي على عضد الضعيف. لذلك، نتيجة هذا الانحلال الروحي هي انحلال الرابطة الزوجيّة، وبالتالي انقسام العائلة بفقدانها لأحد أعضائها الأساسيين.

4.2.2.6  نتائج انفكاك الزّواج على العائلة

إنّ انفكاك الرابطة الزوجيّة له تأثير مفكِّك على العائلة بشكل عام، وخاصّة أنّ معظم هذه الحالات تصير بعد مراحل خصام وقسوة بين الزوجين، وأحيانًا كثيرة يقع الأولاد فيها بين المطرقة والسندان فيعانون الأمرَّين. لذلك، تسعى الكنيسة من خلال القوانين التي تحكم انفكاك الزواج إلى الحدّ قدر الإمكان من الأضرار وتنظيم المور التربويّة والمعاشيّة خاصّة للزوجة والأولاد، وكلّما تجاوب الطرفان في تطبيق قرارت المحكمة كلّما خفَّفا من حدّة آثار الانفكاك على العائلة.

إنّ انفكاك الزواج يصير بقرار من المحكمة الروحيَّة، ما عدا انفكاكه بالوفاة. وفي حال وجود دعوى بين الزوجين تسقط بوفاة أيّ من الطرفين. أمّا عند الحكم بانفكاك الزواج فعلى المحكمة تحديد المسؤوليّات وتاليًا لأجل العدالة والمصالحة تقدير التعويض عن الأضرار المترتّبة لأحد الزوجين على الآخر نتيجة ذلك، إذا عجز الزوجان عن إثباتها أو الإتّفاق على تقديرها، أو تركا للمحكمة أمر تقديرها. كما أنّه يجوز للمحكمة وفي حالة إعسار المرأة أن تحكم على الرجل بأن يدفع لها مبلغًا من المال لتواجه بواسطته وضعها الجديد بعد انفكاك الزواج، كونها “الإناء الأضعف” (1 بط 3: 7).

في حال عدم التجاوب، ولجل صالح الأولاد والزوجة وحسن معيشتهم يُربط تنفيذ الانفكاك حكمًا بسداد التعويض أو المبلغ المستحقّ الأداء، أو بتنازل مستحقّه عنه بموجب سند رسميّ. ويجوز للمحكمة أن تقسّط سداد المبالغ المستحقّة، مقابل ضمانات قانونية. الهدف المحافظة على حقوق الأولاد والزوجة حين لا يكون التجاوب ايجابيًّا، وهذا من شأنه المحافظة على العيشة الكريمة للعائلة.

وللمحكمة دور تأديبيّ للمساعدة على التوبة واصلاح السيرة، لذلك، عند الحكم بانفكاك الزواج لا يجوز لأيّ من الزوجين أن يتزوج ثانية إلّا بعد اكتساب الحكم الدرجة القطعيّة وتنفيذِه لدى دوائر الأحوال الشَّخصيَّة، وعلى الراغب بالزواج الحصول على اطلاق الحال من المحكمة. على أنّه إذا تضمّن الحكم فترة زمنيّة يمنع خلالها أحد الزوجين من إبرام زواجٍ ثانٍ، فلا يجوز للزوج المذكور الارتباط بالزواج قبل انقضاء الفترة المذكورة.

يجوز للمحكمة أن تمنع زواج أحد الزوجين، الذي تسبّب بانفكاك الزواج في حالتي الفسخ والبطلان، على أن تحدد المحكمة مدّة زمنيّة للمنع، وجِهَةً تكلّفها لرعاية المتسبّب بالانفكاك ومتابعته.

كما يجوز للمحكمة عند الحكم بالطلاق أن تمنع الطرف المسبّب له من الزواج، ولا يجوز زواجه ثانية، إلاّ بعد مراجعة المحكمة الروحيّة التي أصدرت القرار للإستحصال على قرار بالسماح له بالزواج.

حتّى بعد انفكاك الزواج، وإذا نجحت مساعٍ صلحيَّة بينهما إلى التوصب لرغبتهما بالعودة إلى الحياة الزوجيَّة، يمكن عندئذ للزوجين المنفصلين بحكمٍ من المحكمة، اكتسب الدرجة القطعيّة، أن يعودا إلى الحياة الزوجيّة، بقرار منها، يصدر بناءً على طلبهما معًا بعد مباركةٍ من الرئاسة الروحيّة.

4.3 العائلة والتّبنّي

“لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّاموس، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّاموس، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: ‘يَا أَبَا الآبُ” (غل 4: 4 – 6).

الله تبنّانا في يسوع المسيح، فصرنا له أبناء وورثة لملكوته. من هنا، صار الرسل في المسيح آباء ووالدين لنا في الإيمان، وبولس الرسول يعبّر عن هذا الأمر بأجلى بيان إذ يقول: “وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ” (1 كو 4: 15). إذًا، صار الأساس في التربيّة هو الولادة الرّوحيَّة، فو كان للإنسان أولاد من لحمه ودمه ولم يلدهم بالايمان فهو إنّما ولدهم للعالم وليس لله. من هنا الخصوبة الرّوحيّة هي الأساس اي أن يكون الرجل والمرأة قادرين على الانجاب روحيًّا في الإيمان بالمحبَّة وبالمحبَّة في الايمان.

بناء عليه، يصحّ التبنّي في الكنيسة الأرثوذكسيّة وفق شروط معيّنة هدفها إعطاء فرصة للزوجين لاختبار الأبوّة والأمومة في الروح. لذلك، طلب التبنّي يُقَدَّم إلى المحكمة الروحيّة من الزوجين مجتمعَين مع لائحة الأسباب الموجبة لتقديم طلب التبنّي. طبعًا، يجب أن يكون طالبا التبنّي متزوّجَين وأن يكونا كلاهما على قيد الحياةن وأن يكون طالبا التبنّي أكبر سنًّا من المتبنَّى نحو ثماني عشرة سنة على الأقلّ، وأن يكونا من ذوي السيرة الحسنة وممارسَين للحياة المسيحيّة، وأهلاً لتربية المتبنّى، قادرَين على أن يؤمّنا له وسائل المعيشة والتربية والرعاية الروحيّة والنفسيّة والجسديّة اللائقة، وعلى أن يتأيّد ذلك بتقارير من كاهن الرعيّة وخبراء نفسيّين واجتماعيّين.

حرصًا على خير المُتَبنَّى، يجب ألّا يكون لطالبَي التبنّي أولاد، ولا أمل لهما بإنجابهم لسبب في السنّ أو مرض أو علّة أخرى، على أن يكون ذلك مؤيّدًا بالتقارير الطبّيّة الشرعيّة. ويجوز للمحكمة، في حالات تقدّرها، أن تحكم بالتبنّي على رغم وجود ولدٍ آخر.

من المهمّ أن تتثبّت المحكمة من الوضع الصحّي والإجتماعي والقانوني للولد المطلوب تبنّيه حرصًا على طالبي التّبنّي وعلى حسن رعاية المُتَبنَّى.

لا بدّ من موافقة المُتَبنَّى في حال كان راشدًا أو موافقة أوليائه إن كان تحت ولاية أو وصاية.

لقبول التبني يجب أن تصدر المحكمة الكنسيّة حكمًا بذلك رسميًّا وأن تجري الرئاسة الروحيّة الصلوات المناسبة، وأن يسجّل ذلك في سجلّ الكنيسة والأحوال المدنيّة.

4.4 العائلة والمال

4.4.1    في ما يتعلق بثروة الزوجين

لا شكّ أنّ سرّ الزّواج هو سرّ الوحدة، وهذه الوحدة لا بدّ أن تتجلّى في حياة الزوجين على كلّ الصعد ومنها الصعيد المالي. لكن، بما أنّ السّرّ المعقود بين الرجل والمرأة هو بداية الطريق والسعي لعيش هذه الوحدة بالكامل، فهذا يعني أنّه مع نمو الحبّ بين الزوجين وتوطيد الثقة تتوسّع أوجه التعبير عن الوحدة بينهما. لذلك، يعطي القانون الكنسي الحرية للزوجين في ما يخص أموالهما، ويحدّد بأنّ لكلّ من الزوجين ذمّة ماليّة مستقلّة عن ذمّة الآخر، ولكلّ منهما ملء الحرّيّة في التصرّف بأمواله. إلّا إذا اتفق الزوجان على غير ذلك عند إقامة الزواج أو بعقد مستقلّ. طبعًا، يبقى  أنّ كلّ اتفاق ماليّ بين الزوجين هو شريعتهما الخاصّة، ولا يمكن تعديله بعد الزواج إلّا باتفاق الطرفين، ويترك أمر النظر به عند خلافهما حوله للقضاء المختصّ. وبناء على ذلك، الأموال المنقولة المختصّة عُرفًا بالزوجة، كما تلك التي اشترتها بمالها الخاص أو بمال ذويها، تبقى ملكًا لها، أمّا ما خلا ذلك فيعتبر ملكًا للزوج، ما لم يقم الدليل على خلافه.

4.4.2 في الميراث

حين خلق الرَّبّ الإله المرأة من جنب آدم، خلقها ليكون لآدم “مُعِينًا نَظِيرَهُ” (تك 2: 18) وهما “يَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” (تك 2: 24)، أي هما واحد في الكرامة والقيمة والمرتجى. أمّا الرسول بولس، فيحدِّد  أن “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (غل 3: 28). إذًا، المساواة حاصلة بسبب الوحدة في المسيح وبسبب صورة الله في الإنسان. من هنا، لا يجوز التعاطي بشأن الميراث خارج هذا المبدأ أن القيمة والكرامة واحدة للرجل والمرأة في المسيح. وبناء عليه، يُتعاطى مع مسألة الميراث بما يخص الرجل والمرأة والأولاد والقرباء انطلاقًا من مبدأ المساواة.

5. الخلاصة

ختامًا أحببت أن اقتطف من خلاصة اعمال المجمع الأنطاكي المقدس المنعقد في تشرين الأول 2019 حول موضوع العائلة حيث اعتبر آباء المجمع أنّ “العائلة هي كنيسة المسيح الصغيرة”، ومنها تتشكّل الكنيسة الجامعة. كلُّ إنسانٍ هو نتاج عائلته، ينهلُ المسيحَ من والديه وأجداده على رجاء أن يُقدّمه للعالم. وكنيستنا تمتلئ بنماذج القداسة المولودة من التربية العائليّة. فالقدّيسان يواكيم وحنّة جدَّا المسيح الإله، قدّما للعالم والدةَ الإله الفائقة القداسة التي أعطت الفرح لكلّ العالم. والزوجان المباركان القدّيس باسيليوس الشيخ والقدّيسة إميليا، أهديا الكنيسة القدّيسِين: باسيليوس الكبير، ‏وبطرس أُسقف سبسطيا، وغريغوريوس أُسقف نيصص، وبنكراتيوس الناسك، ومكرينا البارّة الحكيمة. هذه العائلة المثال مدَّت الكنيسة والعالم بنورٍ من نورٍ لا يغيب، وعلمٍ يفوق كلّ العلوم”.

من هنا، “رجاء الكنيسة أن تبقى “العائلةُ فرح الحياة” وأن يظهرَ سرّ الفرح فيها كشركة حياةٍ وحبٍّ ومصالحةٍ، وكصورة لملكوت الله. هذا كلّه على أمل أن تُهدي عائلاتنا الكنيسة والعالم أقمارَ إيمانٍ ومحبّةٍ وسلام”.

طبعًا، وللأسف، ما زلنا في عالم يسيطر فيه السّقوط، ولذا نجد أحيانًا عائلات تتفكّك وتتألّم لأسباب عديدة، وعلى الكنيسة أن تتعامل مع هذه الحالات بحكمة ومحبّة وحزم لخير ما يتبقّى من العائلة وخاصّة الذين يعانون بسبب ضعف أو سقطات الآخرين في العائلة، ولا سيّما الأولادن هذا من ناحية. تباعصا لا بدّ من تنظيم الخلافات والحدّ من نتائج انفكاك الزواج السلبيّة على أفراد العائلة، قدر الإمكان، وهنا بسبب وجود التذعدّي لا بدّ من النَّاموس لكشف التّعدي وإحقاق العدل قدر المستطاع، هذا من ناحية أخرى.

وجود الكنيسة في دول لها قوانينها، ومجتمعات لها تقاليدها، يفترض أيضًا، أن تهتمّ الكنيسة بتنظيم الأحوال الشخصيّة لأبنائها بما ينسجم مع أنظمة هذه الدول وبما هو نابع من الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة، إذ الغاية أن يكون كلّ شيء “بلياقة وترتيب” (1 كو 14: 40) وأن يصبّ في تحقيق العدل والرحمة والخلاص. من هنا وجود المحاكم الكنسيّة الروحيَّة هو لأجل خير الجماعة وحسن تدبير شؤونها لما فيه توبة وخلاص المؤمنين وتنظيم شؤونهم في الحق.

في هذا الإطار يعلّمنا الرسول بولس أنّه لا بدّ من المحاكم في الكنيسة لأجل معالجة المخالفات في الكنيسة لأجل خير المؤمنين وخلاصهم “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ، أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟” (1 كو 6: 2).

ختامًا، كلّ شيء في الكنيسة غايته الحقّ والخلاص في شركة المحبَّة الإلهيَّة، ومن هذا المنظور تتعاطى الكنيسة شؤون أبنائها في هذا العالم وتضع قوانينها لتناسب رسالتها وشهادتها ولا سيّما بما يختصّ بالحفاظ على العائلة وقداسة أفرادها.

زحلة في 6 آب 2023                                                                          + أنطونيوس

                                                                                        متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

[1] خضر، المطران جاورجيوس، ” العائلة”، 24 تشرين الثاني 2014، في: أخبار الكنيسة، الكنيسة في لبنان، مقالات، عن: الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة- لبنان (ucipliban.org).

[2] كما ورد أعلاه.

[3] راجع أعلاه.

[4] الطلبة السلامية الكبرى في خدمة الاكليل.

[5] راجع أعلاه.

[6] راجع 1 كو 13.

[7] الطلبة السلامية الكبرى من خدمة العربون.

[8] الأفشين الثاني من خدمة العربون.

[9] الأفشين الثالث من صلاة العربون.

[10] راجع الإفشين الأول والإفشين الثاني من خدمة الاكليل.