نشرة كنيستي- الأحد قبل عيد رفع الصَّليب- العدد 37
11 أيلول 2022
كلمة الرَّاعي
الصَّليب فخرنا
”فحاشا لي أن أفتَخِرَ إلَّا بصليبِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ الَّذي به صُلبَ العالمُ لي وأنا صُلبتُ للعالم“ (غلاطية 6: 14)
أربعون يومًا تفصل أو تصل بين عيد التّجلِّي وعيد رفع الصَّليب الكريم المُحيي. هذا حدّدته الكنيسة إذ بدأت بترتيل كطافاسيّات الصَّليب من يومها. في الحقيقة هذا يشير إلى أنّ الكنيسة تنقلنا من تجلِّي سرّ الرّبّ إلهًا متأنِّسًا ممجّدًا على جبل ثابور إلى تمجيده وتجلّيه في سرّ حبّه للخليقة على جبل الصَّليب. في الحقيقة، الرّبّ يسوع هو الَّذي كشف لنا هذا الأمر حين تحدَّث مع تلاميذه وهو نازل من جبل التّجلّي عن آلامه وصلبه (راجع مثلًا: مر 9: 9—13).
في سرّ التّجسّد الإلهيّ لا ينفصل المجد عن الألم ولا القوّة عن الضُّعف لأنّ حقيقة المسيح الإلهيّة تجلَّت من خلال آلامه على الصَّليب حيث صار موته حياةً للعالم أجمع…
* * *
الحياة في هذا العالم تمتزج فيها الأفراح بالأتراح والآلام بالرّاحة والضِّيق بالفرج والعَوَز بالغنى… حياتنا لا يمكننا أن نعيشها دون ألم لأنّ الخطيئة الَّتي هي مصدر أوجاعنا صارت مرتبطة بنَفَسِنا. الإنسان في العالم يتنفَّس الخطيئة ولهذا لا يجد راحةً ولا سلامًا. مِنْ أين يأتي البشر بالأوكسيجين النّقيّ؟!… من الصَّلاة، ولكن ليست أيّة صلاة بل من الصّلاة الحارّة الَّتي تقضي على فيروسات الأهواء المنتشرة في هواء القلب وفضائه والمسبّبة الخطيئة.
يا أخي، هل تريد أن تعيش دون ألم؟ إذًا عليك أن تقبل الألم طريقًا إلى الرّاحة الأبديَّة. أمَّا إذا طلبت الرّاحة في هذا العالم من هذا العالم فستجلب على نفسك راحةً مؤقّتة سريعة الزّوال وهشّة مؤدِّيَة إلى الألم الأبديّ.
من أين تأتيكَ الرّاحة؟ من القلب النّقيّ أي الَّذي لا يرى خطايا الآخَر عائقًا أمام محبّته له، بل بالعكس سببًا موجبًا لمحبّته أكثر وتعهّده بالصّلاة والخدمة اللَّتين بالحقّ الإلهيّ. هذا هو صليبُكَ أي أن تَصلب روح الدّينونة والكبرياء الَّتي فيك لتتحرَّر من الأنا القابضة عليك بالأهواء المُتعدِّدة الأَشْكَال.
* * *
الإنسان يشتاق إلى الافتخار في نفسه بسبب كبريائه لأنّه يحبّ المديح وتعظّم المشيئة وأساليب الحياة. هذا وضع الإنسان في سقوطه أي في عبادته لذاته. مصدر الشّوق إلى العظمة والمجد هو أنّ الإنسان ما بعد خطيئة الجَدَّين الأوَّلَين صار على صورة آدم وليس على صورة الله المباشَرة كما آدم الأوَّل، أي أنّ صورة الله لم تعد فيه واضحة (راجع تكوين 5: 1—3) لأنّ الإنسان صار مجبولًا بالطّبيعة الضّعيفة جرَّاء الخطيئة الأولى أي أنّه صار ميَّالًا للشّرّ (راجع تك 6: 1—6).
ما هو الشّرّ؟ أن يفتخر الإنسان بذاته، بكلمات أخرى أن يردّ كلّ ما له وعنده وفيه إلى نفسه. من ينسى أنّه ”تراب ورماد“ (تك 18: 27 وسيراخ 17: 31) يفتخر أيْ يحيا في الأنانيّة المُطلَقَة. من عرف أنّه بائد ساقط خاطئ وأنَّ نَفَسَهُ هو من رحمة الله عليه يتَّضِع ويطلب مجد الله الَّذي بالتَّوبة.
هل يعرف الإنسان ماذا في السّماء؟ هل عاين القوّات غير الهيوليَّة الَّتي تسبِّح مجد الله بلا انقطاع في الفرح السّرمديّ؟ هل اختبرَ النّور الإلهيّ غير المخلوق؟ هل قلبه ملتهب بالعشق الإلهيّ المحرق كلّ أشواك الأهواء والواهِب الرَّاحة والغبطة الَّتي لا توصف؟
”مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبّ. لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ“ (2 كو 10: 17—18). نحن نفتخر بصليب ربّنا يسوع المسيح لأنّه هو الَّذي خلَّصنا إذ صُلب ومات لأجلنا ليُقيمَنا معه. إذا افتخرنا به نتمجَّد معه لأنّنا بدونه لا نستطيع أن نحقِّق الغلبة على الخطيئة والموت، وهو الوحيد الَّذي يحقّ له ويليق به الفخر لأنّه مصدر كلّ مجد سرمديٍّ سينسكب على محبّيه المؤمنين به.
أُطلُبْ مجد الله يا أخي في كلّ حياتك فتحصد مجدًا أبديًّا لنفسك. أهرُبْ من المديح طالما أنت في هذه الحياة الفانية لئلّا يبتلعك شيطان المجد الباطل ويُفني حياتك في جحيم نفسك. اِتَّضِعْ لتنال من العَلِيّ كلّ بركة ونعمة وتصير نبعًا يفيض ماءَ حياةٍ من لَدُنِ الله.
اِقْبَلْ صليب الرّبّ بحُبّ وأمانة لتحيا بسلامٍ كاملٍ مع نفسك ومع القريب في شركة القدِّيسين بالمسيح في نعمة الرُّوح القدس. لا تَخَفْ المواجهة لأنّ الحياة حربٌ دائمة مع أرواح الشّرّ الَّتي في الهواء الطّالبة صلبنا في أجسادنا لتصير لنا أجسادنا صليبًا للموت الأبديّ بالأهواء. أمّا من يصلب جسده للمسيح بطاعة الوصيّة يطرد عنه ذباب الشّياطين وأفكارها باسيم يسوع المسيح يتلبَّس بالنّعمة الإلهيّة المتنزّلة عليه من فوق بالرُّوح الإلهيّ فيصير مع المصلوب ممجَّدًا منذ الآن في شركة جسد المسيح—الكنيسة…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما