نشرة كنيستي- الأحد (15) بعد العنصرة- العدد 39
25 أيلول 2022
كلمة الرَّاعي
الشَّهادة للحقّ
ما بين الإصلاح والتّدمير
”وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ“ (يو 8: 32)
في عصرنا هذا يربط النّاس الحقّ بالمفاهيم القانونيّة والإنسانويّة مُعتبرينها أساسًا للحكم بناءً على شرعة حقوق الإنسان والفلسفات المعاصرة الّتي تبيح للإنسان كلّ شيء بغضّ النّظر عن مسألة قيمة الإنسان في الإيمان وارتباط هذا الأمر بالشَّهادة لله وبِهَمِّ خلاص كلّ كائن بشريّ.
انطلاقًا من هذا المنحى وارتباطًا مع مبدأ الفردانيّة الَّتي تجعل كلّ إنسان كائنًا مستقلًّا في ذاته وحياته بِغَضّ النّظر عن الَّذين يحيا معهم، يصير مفهوم الحقّ مرتبطًا بمبدأ العدالة البشريّة الَّتي تخضع للقوانين الوضعيَّة من جهة، ولحقيقة الإنسان الدّاخليَّة الخاضعة لعوامل عديدة منها المعلوم منه ومنها المجهول والمرتبطة بحالته الرّوحيَّة المبنيَّة على الصّراع القائم فيه بين الخير والشَّرّ أو بكلام آخر بين آدم العتيق وآدم الجديد عند المؤمن بالمسيح.
في العالم يرتبط الحقّ بمسألة مفاهيم وحقوق وواجبات، وهنا نلاحظ أنّ الحقّ إنْ كان معطًى طبيعيًّا يتجسّد في كونه مثالًا أخلاقيًّا، فإنّه لا يصبح ذا قوّة إلزاميّة، إلَّا حينما يجري تقنينه، والاعتماد عليه بكونه حقًّا لكي تكون له قوّة إكراهيّة. لذلك، من يتعاطون الحقّ انطلاقًا من كونه مربوطًا بالأخلاق ومفروضًا بالقانون غايتهم منه بالأكثر، ربّما، تحصيل الحقوق للمظلومين أكثر ممّا هو إصلاح المرتكبين. وقد يحرِّك الإنسان في دفاعه عن الحقّ أهواء كامنة فيه من الكبرياء والأنانيّة وحبّ الظّهور وطلب المديح والسّعي إلى السُّلْطَة وغيرها كثير…
* * *
إيمانيًّا مسيحيًّا أرثوذكسيًّا الحقّ لا ينفصل عن الله لأنّ الله هو الحقّ. لذا، لا يمكن مقاربة مسألة الشّهادة للحقّ خارج إطار الشّهادة لله والَّتي هدفها خلاص الإنسان.ومن يشهد للحَقّ يجب أن يكون طالبه أي سالكًا الطّريق الرُّوحيّ: التَّنقية، أي حياة التّوبة. الحقّ الإلهيّ يكشف لنا حقيقتنا لأنّ يسوع المسيح هو الحقّ وهو المرآة الَّتي يجب أن نرى فيه ذواتنا لأنّه هو الإنسان الكامل والإنسان الحقّ.
”مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ“ (يو 8: 7)، هذا التّصريح للرَّبّ يجعلنا نقارب مسألة الشّهادة للحقّ من زاوية أخرى غير زاوية النّاموس، هي زاوية العدالة والرَّحمة الإلهيّتَين.
عدالة الله هي إتمام الحقِّ للمظلوم والظّالم، وهي، أيضًا، الرَّحمة لهما لأجل الخلاص. لا عدالة إلهيّة محقَّقة ما لم ترتبط بالتّوبة والتّعزية والشّفاء، والتّوبة تغيير فكر وطريق وحياة بقوّة الله.
المظلوم يحتاج تعزية وتشديدًا وعونًا لينهض إلى حياة جديدة بعد شفاء النّفس والجسد لينطلق في مسيرة جِدّة الحياة بالتَّوبة. والظّالم يجب أن يدخل التَّوبة من باب الخوف على فقدان الحياة الأبدَّية لكي ينتقل مع مسيرة التّنقية إلى عيش محبّة الله. هذا لا يكتمل دون أعمال خارجيّة وداخليّة. في كلا الحالتَين لا بدَّ من متابعة روحيَّة ونفسيّة، ربّما.
* * *
أيُّها الأحبّاء، نعيش في زمن صارت فيه كرامات النّاس مباحة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وفي الإعلام بحجة الشّهادة للحقّ، فيُصدِر النّاس أحكامهم جزافًا وكيفما حلا لهم مُنَصِّبين أنفسهم قضاة ومُصْلِحين دون أن يكونوا مضّطلعين أو منخرطين عن معرفة وتدقيق في المسائل الَّتي يعالجونها، وحجّتهم الدّائمة أنّهم يشهدون للحقّ.
سأل مرّة بيلاطسُ يسوعَ: ”مَا هُوَ الْحَقُّ؟“ (يو 18: 38) لأنّ يسوع قال له حين كان أمامه في المحاكمة: ”كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي“ (يو 18: 37).
من يطلب الحقّ يواجه الخطيئة ويرحم الخاطئ، يواجه الظّلم ويعمل لتقويم الظّالم وتوبته. في كلّ الأحوال هذا يجب أن يتمّ بالوسائل القانونيّة ومع الأشخاص المعنيّين والمختصّين وليس خارجًا عن أصحاب الحقّ المُطالَب به أو الَّذي يُسعى لنصرته.
المشكلة في هذا الزّمن أنّ عند الأغلبيّة ممّن تصل يدهم إلى وسيلة تواصل اجتماعيّ قد يصيرون منظِّرين ومعلِّمين في شؤون الحقّ والباطل والعدالة والظّلم، وهذا موقف ينمّ عن روح دينونة واستكبار وانتفاخ علميّ، أحيانًا، وليس عن سَعي للحقّ.
فليفحص كلّ إنسان منّا دواخله وليعرف نفسه ويفحص ضميره ومسيرته وحياته بكلمة الإنجيل قبل أن ينطق أو يتكلّم في أمور النّاس وخطاياهم وضعفاتهم، لأنّه قد كُتِبَ: ”يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا“ (رو 15: 1). هذا الكلام علينا أن نعيشه في الجماعة الكنسيّة، أوَّلًا، وأن ننتبه لئلّا ندخل في الدّينونة والمحاكمة لبعضنا البعض إذ يقول الرَّسُول بولس: ”فَلاَ نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ احْكُمُوا بِهذَا: أَنْ لاَ يُوضَعَ لِلأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ“ (رو 14: 13) لأنّ الحقّ لا ينفصل عن السّلام والخلاص والتّحرير، وهذه كلّها يُسأل عنها الإنسان أمام الله ويحياها في الجماعة للبُنيان والإصلاح في روح التَّوبة والاتِّضاع وبحسب الدَّوْر الَّذي له في الكنيسة، لذلك ”فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ“ (رو 14: 19) لأنّ هذا هو حقّ الله في المسيح يسوع الَّذي أتى ليدين الخطيئة ويبرِّر الخاطئ ويهبط المتكبّر ويرفع المتواضع ويشدِّد التَّائب بنعمته ويشفي المريض بقدرته ومحبَّته…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما