نشرة كنيستي- الأحد (3) بعد الفصح المخلّع- العدد 20
12 أيّار 2022
كلمة الرَّاعي
السُّلَّم إلى الله
نعيِّد في هذا الأحد المبارك الرَّابِع من الصَّوم الكبير للقدّيس يوحنّا السُّلَّمي. وقد دُعي كذلك لأنّه كتب مؤلَّفًا أسماه ”السُّلَّم“ يُفصِّل فيه مَراحِل الجهاد الرُّوحيّ ودَرَجاته الَّتي حَدَّدها بثلاثين إشارة إلى عمر الرَّبّ يسوع المسيح قبل ظهوره العلنيّ وبدء بشارته. وقد استوحى اسم مؤلَّفه هذا من رؤيا ”سلّم يعقوب“ (راجع: تكوين ٢٨)، حيث يرى يعقوب في الحلم ”وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا …“ (تك 28: 12 و13).
وترمز السُّلَّم، بعامّة، إلى مَسيرَةِ الارتقاء الرُّوحيّ نَحْوَ الله كما قد ترمز إلى صليب الرَّبّ الَّذي يجمع بين الأرض والسّماء. كما أنّ الكنيسة تمدح العذراء صارخةً نَحْوها ”إفرحي أيَّتها السُّلَّمُ المُصْعِدّةُ الكُلَّ بالنِّعْمةِ مِنَ الأرضِ إلى السَّماء. إفرحي يا جسًـرا ناقلًا بالحقيقة من الموت إلى الحياة جميعَ الَّذين يُسَبِّحونَكِ“، كَوْنَها بِصَيْرورَتها والدة للإله أعطت ابن الله وكلمته المسيح يسوع جسدًا منها فصار كإنسانٍ الوَسيط الوَحيد بين الله والنّاس، ”لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ“ (1 تي 2: 5)، ومَنَحَ المؤمنين به نعمة روحه القدُّوس المتنزِّل عليهم به والَّذي يرفعهم إلى ملكوت الله.
كتب القدّيس يوحنّا كتابه بناء على طلب الأب يوحنّا رئيس دير رايثو وذلك لمنفعة الرُّهبان. طبعًا، لا يستطيع المؤمن الَّذي ليس راهبًا أن يقرأه ويعتمده منهجًا له كالرُّهبان دون أن يميِّز ما هو مُفيدٌ لِنَفْسِهِ وتَقَدُّمه الرّوحيّ، إذ قد يجد فيه ما هو فوق طاقته أو ما هو يختلف عن حياته اليوميّة، ولكن مع مرافقة إنسانٍ مُختَبَرٍ روحيًّا يمكنه أن يقطف منه ثمارًا مُفيدة لبُنيانه في جهاده ونموّه الرّوحيّ، لأنّ جوهر التّعليم هو واحد ولكن لكلّ إنسانٍ أن يعيش روح التّعليم بحسب ما يناسب واقعه.
* * *
إنّ القدّيس يوحنّا السُّلَّمي يعتبر أنّ الجهاد الرّوحيّ هو مسيرة تنقية وتوبة وحرب روحيّة ضدّ أهواء الإنسان والَّتي يعتبر أنّ الأساسيّة منها هي: الغيظ والضَّجر، الشّراهة والزّنى وحبّ المال، عدم الإحساس والكبرياء. من هذه الأساسيّة يتفرَّع أهواء ثانويّة. الطّريق الَّذي على المجاهد سلوكه ليرتقي في حياته الرّوحيّة ويتطهَّر فكره وقلبه وجسده يمرُّ بالزُّهد في العالم كغربة خارجيّة وداخليّة. هذا يعيشه الإنسان اليوم عبر عدم التّعلُّق لا بالبشر ولا بالحجر ولا بأيّة تعزيات مرتبطة بأنانيّة الشّهوات أو كبرياء الإنسان. بل بالسَّعي الدّائم لطاعة وصيّة المحبَّة الّتي هي إخلاء للذّات وخروج من قوقعة الأنا واستهلاكيّتها إلى الانفتاح على الآخَر كمحبوب بالبذل والعطاء للذّات.
لكي ينجح الإنسان المعاصر في جهاد الغربة عليه أن يسلك في العمل (praxis) الرّوحيّ عبر الطّاعة للوصيّة الإلهيَّة وللكنيسة وتعليمها وخبرة آبائها لكي يتعلّم أن يواضِع نفسه، فيعرف خطاياه ويمشي في درب التّوبة عبر فحص الضّمير والسّيرة بكلمة الله متأمِّلًا بالموت ليتقوَّى في محاربة الأهواء بغسل دموع التّوبة والرّغبة بالتّحرُّر من قيودها. السّلوك الجِدّيّ في هذا الطّريق يوصل الإنسان إلى انفتاح كيانه أكثر فأكثر على النّعمة الإلهيّة الّتي تصير أفعَلَ فيه فيحصل على ثمار الوداعة والتَّواضع والتَّمييز الَّتي تقوده إلى السُّكون والصّلاة النّقيَّة حيث واللَّاهوى والمحبَّة. البداية جهاد مُتْعِب وألم ودموع حزن والنِّهاية نعمة تؤول إلى سُكنى روح الله في الإنسان وراحة وفرح وغبطة.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، من يتعلَّق بالدّنيا يعيش فيها ولها، ومن يتعلَّق بالملكوت والحياة الأبديَّة يكون حُرًّا من العالم، هو يكون في العالم ولكنّه لا يكون من العالم، لأنّه يطلب حياة الدّهر الآتي. إذا لم ينطلق الإنسان في تعاطيه الوجود من الإيمان بالقيامة والحياة الأبديَّة فلن يستطيع أن يعيش إلّا لهذا العالم، وبالتّالي سيكون مُستسلمًا للأهواء الَّتي جوهرها الأنانيّة والكبرياء أي تأليه الإنسان لذاته في نظرته لنفسه وعلاقته بالآخَرين، ممّا يجعله يحيا لملذّات الجسد وشهواته طالبًا سلطة المال وما تستتبعه من عيش لأجل الفانيات. الإنسان المؤمن، يعرف أنّ الحياة لا تتوقّف عند هذا العالم، ولذلك يعمل في هذا العمر ليقتني كنوزًا لا تفنى أي نعمة الرُّوح القدس الَّتي هي عربون حياة الدّهر الآتي.
الكنيسة المقدَّسة تذكّرنا في هذا الأحد الرّابع من الصّيام بأنّ صيامنا وصلاتنا وجهادنا ضدّ الأهواء وتوبتنا ومحبّتنا الفاعلة هم طريقنا نحو الفصح، وأنّنا لنعبر إلى القيامة لا بدّ لنا من الموت عن إنسان هذا الدّهر عبر هذه المسيرة الرّوحيَّة الّتي يفصِّلها القدّيس يوحنّا السّلّمي في مؤلَّفه، والّتي ليست هي مسيرة مرحلة من حياتنا بل هي مسيرة حياتنا، لأنّ ارتقاءنا نحو اللّاهوى والكمال أي المحبّة الَّتي هي ”التّشبّه بالله على قدر ما يتيسَّـــــــر هذا للبشر“ (درجة 30، مقطع 7)، من خلال هذه الوَحدة بيسوع في نعمة روحه القدّوس.
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما