الرّسالة الرّعائيّة للمتروبوليت أنطونيوس (الصّوري)
بمناسبة عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلَّصنا يسوع المسيح
(ميلاد 2019)
“المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرَّة” (إنجيل لوقا 2: 14)
صدحَ الملائكة بهذا التمجيد في كشف سرّ ميلاد عمّانوئيل للرعاة السهارى لحراسة رعيّتهم. السّماء بشَّرت الخليقة بالتنازل الإلهيّ في فرح مجدها بالمتجسِّد، من الروح القدس والفتاة البتول المختارة، لخلاص البشريّة وإدخالها في ملكوت السّلام والفرح بالطّفل الإلهيّ الآتي متواضعًا مدرجًا في مذود حقير ليبدأ بشارته بكشفه حنانه اللامتناهي في مشاركته فقر البشريّة التي ابتعدت عن باريها ليردّها إلى غنى حياة النّعمة التي خُلِقَتْ لأجلها …
* * *
ها إنّ إلهنا يأتي إلينا، هو يبادر دائمًا ليستعيدنا إليه. البشريّة فقدَت سلامَها منذ غادرَ الإنسانُ مجدَ الله. “الكلّ اخطأوا وأعوزهم مجد الله” (الرسالة إلى أهل رومية 3: 23). الخطيئة هي نتيجة ابتعاد الإنسان عن معاينة مجد الخالق وسببه في آن. المسيح يولد ليُدخل الخليقةَ في الزّمن الجديد: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا” (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 5: 17). إنسان الخطيئة قد انتهى زمنه مع مجيء طفل المغارة، لأنّ الإنسان الجديد قد ظهر، لا بل “الإنسان” هو الَّذي استُعلِن للبشريّة. كلّ ما ليس في المسيح يكون عتيقًا. رسالة ابن مريم البتول أنّ ابن الله صار إنسانًا ليصير ابن الإنسان إلهًا. ما معنى أن يصير الإنسان إلهًا؟ أي يحقِّق صورة الله فيه فيصير على مثال العليّ وشبهه أي أنّه يحمل صفاته كونه صار ابنًا له بالابن المتجسِّد في الروح القدس.
* * *
مجيء الرب إلينا طفلًا مقمَّطًا مضجعًا في جوف الأرض يحمّلنا رسالة ودورًا وشهادةً إلى العالم. ولادته فعل حبّ إلهي لا يوصف ولا يمكن للعقل البشريّ أن يدركه إلّا بالتّسليم عبر الإيمان. هذا الإيمان مصدر رجاء بحياة أفضل ملؤها الحنان الإلهيّ والسّلام والفرح بقوّة الَّذي أوجدنا من العدم. خارج حبّ الله يعود الإنسان إلى العدم، ومن يقتبل سكنى الحبّ الإلهيّ فيه لا يمكنه إلّا أن يبشِّر “بفرح عظيم لجميع الشّعب” (لوقا 2: 10). الكنيسة، جسد المسيح، المؤمنون جميعًا مع الخدّام هم حاملو هذا الفرح وناقلوه. كلّ من يقبل البُشرى يدخل في شركة مع الخليقة كلّها “فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 15). هذا معناه أن نحمل بعضنا البعض في الْمَحَبَّةُ الَّتي تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. التي لاَ تَحْسِدُ ولاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَالّتي تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. هذه هي اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا (راجع: رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 13: 4 – 8).
* * *
في هذا الزّمن، نحتاج إلى شهود للتنازل الإلهيّ، شعبنا وبلادنا يحتاجون الرجاء الّذي من فوق، هذا الرجاء الَّذي بالإنسان الجديد الصّادق النّقي الباذِل. كلّ مؤمن مدعوّ ليحمل هذا الرجاء حيثما وُجد بشخصه وأعماله وفكره، وككنيسة كجماعة متّحدة في الرب علينا أن نكون متضامنين متعاضدين حاملين بعضنا بعضًا وكلّ محتاج في بركات الله علينا، وأن نكون صانعي سلام وسدًّا منيعًا أمام الفتن واللامنطق وصوتًا للحقّ في أزمنة الباطل والجهل والعصبيَّات لنكون في أساس ولادة بلادنا جديدةً بروح الإله المتجسِّد … وفي هذا الإطار ندعو جميع المعنيين من الشعب والمسؤولين إلى التعاون لما فيه خير هذا البلد والعمل على تشكيل حكومة تحقِّق مطالب اللبنانيين ببناء دولة المؤسسات والشفافية والإنماء المتوازن والعادل.
* * *
وليس لنا في هذا اليوم المبارك بمناسبة عيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح سوى أن نتمنّى لأبناء كنيستنا وبلدنا ومنطقتنا أن يولد السّلام والأمان فيها قريبًا جدًّا. ولا نستطيع إلا أن نفكِّر بكلّ متألّم ومهجَّر ومسبيّ ومخطوف، لا سيّما أخوَينا مطرانَي حلب المتروبوليت بولس (يازجي) والمطران يوحنا إبراهيم، سائلين المولود الإلهيّ الَّذي حرّرنا من عبودية الموت والخطيئة أن يفكَّ أسر جميع المختطفين وأن يعّزي عائلاتهم ويشدّدهم بالإيمان والرجاء وأن يمنح بلدنا والعالم أجمع بدايات جديدة نحو الحياة الأفضل (إنجيل يوحنا 10: 10) …
+ انطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما