نشرة كنيستي- الأحد (12) من لوقا (البرص العشرة)- العدد 3
19 كانون الثّاني 2025
كلمة الرّاعي
الرِّئاسَة والخدمة
“إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ” (مر 9: 35)
في العالم الرُّؤساء يَسودون شعوبهم، ولكن لَفَتَني في زيارتنا بِمَعِيَّة صاحب الغبطة البطريرك يوحنَّا العاشر مع الإخوة أصحاب السِّيادة مطارنة الأبرشيّات اللُّبنانِيَّة إلى فخامة رئيس جمهوريَّة لبنان العماد جوزيف عون قَوْل فخامته لنا بأنَّه كرئيس في خدمة الشَّعب وليس الشَّعب في خدمته وأنَّ الرِّئاسة خدمة. كلامٌ إنجيليّ لا غِشَّ فيه، وروحٌ إنجيليَّة في الرِّئاسة والخدمة تنسجم مع قَوْل الرَّبّ: “جئتُ لأخَدُمَ لا لأُخْدَمَ” (متّى 20: 28). إذا كان هذا كلام رأس الهرم في الدَّوْلَة اللُّبنانيَّة فلا يمكن إلَّا أنْ نتوقَّع هذه الرُّوح الجديدة لدى جميع المسؤولين في أيِّ موقعٍ كانوا، وهنا تأتي الجِدَّة في إدارة البلاد ومن هذه الرُّوح تأتي قيامة الوطن…
إذا كان هذا تفكيرُ مؤمنٍ بالمسيح وصل إلى أعلى مرتبة في قيادة البلاد، فكم علينا نحن المؤمنين إكليروس وعلمانيّين أن نتحلَّى بهذه الرُّوح وأن نلتصق بوصِيَّة الرَّبِّ القائل: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا.” (مر 10: 44)؟!…
* * *
النَّاس بحاجَةٍ إلى قُدْوَةٍ صالِحَة لتتشَجَّع في عمل الصَّلاح، والقُدْوَة السَّـــــيِّــئـة، أيضًا، تُشَجِّع النَّاس على سلوك طريق الباطِل. كمؤمنين علينا مسؤوليَّة، وهذه المسؤولِيَّة وُضِعَتْ على عاتقنا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ يسوع يوم قال لتلاميذه: “وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ” (أع 1: 8).
كيف نَشْهَد لِيَسوع؟ بِعَيْشِنا لِوَصيَّتِه الَّتي هي شهادتنا لحَقِيقَته ولِقُوَّته. طبعًا، لا يظُنَّنَّ أحدٌ أنّه بقُوَّته يستطيع أن يُتَمِّم مشيئةَ الرَّبّ، لأنَّ كلمة الله تفعلُ بالنِّعْمَة الإلهيَّة فِعْلَها وليس بقوَّتِنا نحن، إذ “لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا” (2 كورنثوس 4: 7).
علينا، إذن، أن نكون نحن بدَوْرِنا قُدْوَةً بعد أن نقتدي بالقدِّيسين الَّذين اقتدَوْا بالرَّبّ وحياتهم شاهدَةً لهم عن شهادتهم للمسيح وعن تَجَلِّي قوَّة الله فيهم رغم ضعفاتهم… فبولس الرَّسُول، مثلًا، يطلب من أهل كورنثوس صراحة: “اقتدُوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح” (1 كو 11: 1). جرأة بولس تأتي من تواضُعِه ومعرفَتِه لنفسه ولعمل الله فيه، فهو يُصَرِّح ويَعْتَرِف “أنَّ المسيح يسوع جاء إلى العالم ليُخَلِّص الخطأة الَّذين أوَّلُهم أنا.” (1 تيموثاوس 1: 15). هذه المعرفة للذَّات ولعملِ الله في الإنسان تجعل هذا الأخير مُتواضِعًا لأنَّه يُدْرِكُ أنّه بدون المسيح لا يستطيع أنْ يعمل شيئًا!… (راجع يوحنا 15: 5).
* * *
أيُّها الأحبّاء، مطلوب منّا كمؤمنين أنْ نَخْدُمَ، لأنّ معلّمنا وربّنا هكذا صنع لمّا غسَل أرجل التَّلاميذ (راجع يو 13)، وليس لنا فضل إنْ خدَمْنَا لأنّه يقول صراحةً: “مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا” (لوقا 17: 10). هذه هي روح الخِدْمَةِ التَّواضُع والوَداعَة، فيسوع يدعونا قائلًا: “تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (متّى 11: 29). إذًا، عندما نَعْمَل ونَخْدُم ونَبِني ونؤسِّس ونُطَوِّر ونُعطي إلخ. فكلّ ما نفعله هو عطيّةٌ مِنَ الله لنا منه، وليس لنا أن نفتخر أنّنا نحن عملنا وصنعنا كذا وكذا لأنّ الفاعل فينا هو الله وهو وَليُّ التَّوفيق، “إِذًا لاَ يَفْتَخِرَنَّ أَحَدٌ بِالنَّاسِ! فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ: (…) وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَالْمَسِيحُ للهِ.” (1 كو 3: 21 -23).
المسؤوليَّةُ، إذن، تقع على عاتِقِنا كإكليروس، أوَّلًا، وكمؤمنين ثانيًا، أنْ نَشْهَدَ للمَسيح بواسطة الخدمة، وأنْ نَعِي أنَّنا جميعنا خُدَّام، وأنَّ أوّلنا رئيس في الخدمة وليس في المنصب، فالخدمة نتيجة طبيعيّة للمحبَّة، محبّة الله ومحبّة القريب، ولا يمكن أنْ نُحِبَّ الله إن لم نُحِبّ أخانا والعكس صحيح… (راجع 1 يو 4: 20). وهكذا الرَّئيس يَخدم لأنّه يحبّ، ويُخدَم لأنّه مَحبوب، وبدون المحبَّة ينتَفِي مفهوم الخدمة فتَصير هذه مصلحة أو عبوديَّة…
ألَا مَنَحَنَا الله جميعًا، أنْ نُحِبَّهُ لنَخدم الإنسان وأنْ نُحِبَّ الإنسان لنخدم الله… لِيَصيرَ المسيحُ فينا الكلّ في الكلّ…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما