نشرة كنيستي- الأحد (8) بعد العنصرة- العدد 31
30 تموز 2023
كلمة الرَّاعي
الحشمة والعفَّة
“فَالْفَضَائِلُ هِيَ أَتْعَابُهَا (للحكمة)، لأَنَّهَا تُعَلِّمُ الْعِفَّةَ” (حكمة سليمان 8: 7)
الحشمة هي حياء ورزانة ووقار وأدب وتواضع، هذا هو معناها لغويًّا. والكلمة المُستعملة في العهد الجديد هي باليونانيَّة “kosmios” وتأتي بنفس المعاني، وتُسْتَخْدَم لوصف الملابس غير الخليعة، “لِبَاسِ الْحِشْمَةِ” (1تيموثاوس2: 9)، كما أنَّها أيضًا تصف التَّصرُّف والسُّلوك بِلَياقَة “عاقِلًا مُحتشِمًا” (1تيموثاوس3: 2).
وترتبط الحشمة بالتّقوى وتاليًا بالعفَّة، إذ أنّ عدم الحشمة هو كشف الجسد وإبرازه، ممّا يُعرِّض غير المحتشم إلى أن يَعرُضَ جسدَه كأداة شهوة بإزاء الآخَرين (راجع 1 تي 2: 9 و10). وهذا مرتبط بحبّ الظّهور والشّهوانيَّة في حياة الإنسان، وبالتَّالي هو مدمِّرٌ للشَّخص على المستوى الرُّوحيّ إذ يُظهرُ عدم وعي إيمانيّ بما يختصُّ بالحرب الرُّوحِيَّة القائمة في قلب الإنسان وفكره تجاه الأهواء.
* * *
عكس الحشمة الخلاعة أو كشف الجسد أو العري، وأمّا الاحتشام فهو من صفات السَّاعِين للسُّلوك في طريق الرَّبّ. عندما سقط آدم وحوّاء (راجع: تكوين 3) تعرَّيا لذلك تغطّيا بورق التِّين وألبَسَهُما الرَّبُّ أقمصةً من جِلْد. مجنون كورة الجدريّين “كَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا” (لو 8: 27) إذ عَرَّاه الشَّيطان لكنّ الرَّبّ يسوع خلّصه فصار “لابسًا وعاقلًا” (لو 8: 35). أيضًا قيل عن الشَّعب العبرانيّ وهو يعبد العجل أنّه تعَرَّى “للهُزء بين مقاوميه” (خروج32: 25). العري كتابيًّا، إذًا، رمز لخسارة نعمة الله والحرمان منها، وتاليًا تُعرِّض الخلاعة صاحبها للعنةٍ يستجلبها على ذاته إذ يكون مُخدَّرًا بنشوة العُجب والإغراء.
في هذا الإطار، يدعونا الكتاب إلى الهروب “مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ” (2 بط 1: 4)، وإلى الجهاد في عيش إيماننا لنقدّم بواسطة سلوكنا فيه” فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً” (2 بط 1: 5 – 7). علينا أن ندرك أنّنا في هذه الدُّنيا أمام حربٍ مباشَرَة مع أهوائنا وشهواتنا الَّتي يوقظها أو يؤجّجها فينا العالم بوسائله المختلفة، وما أكثرها اليوم، لا سيّما الإعلام والإعلان والبرامج المتعدِّدَة ووسائل التَّواصل وغيرها… لذلك، ترتبط العِفَّة بالمعرفة، والعِفَّة توطّد الإنسان في معرفة الله ومعرفته لذاته، لكنّها لا تُقتَنى بدون الصَّبر الَّذي هو تعبير عن البّرّ في طاعة الوصيّة الَّتي ترى في الإنسان “هيكل الله” (راجع: 1 كو 3: 17 و2 كو 6: 16)، في حين أنّ الخلاعة تجعله هيكل أوثان…
* * *
أيُّها الأحبّاء،“حضارة اليوم”، هي حصان طروادة الَّذي من خلاله يجتاحنا العالم ليسوقنا عبيدًا لشهوات الجسد وأفكار الخطيئة الَّتي يحرّكها فينا من خلال الأنا والكبرياء عبر عرضها علينا في جلباب “حرّية الفرد” الّتي تُستَعمل مَطيَّة لكلّ تعليم مناقض لحرّية أبناء الله (راجع رو 8: 21).
لا شكّ أنَّنا نَعيش في زمنٍ صارت فيه العِفَّة صعبة العيش جدًّا وتُرْبَط بالتَّخَلُّف لإخجال الَّذين يلتزمونها، وأمّا الحشمة فرُبِطَت بمفاهيم متزمّتة حول الإنسان. الحقيقة الإيمانيَّة تعلّمنا أنّ الْكَلِمَةَ “صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو 1: 14)، أي أُظهِرَتْ فيه وتحقَّقتْ الإنسانيّة الكاملة النَّقِيَّة. تاليًا، لم تَعُد النَّظرة إلى الجسد والحِشمة والعِفَّة، فيما بعد، مرتبطة بمفاهيم ناموسيَّة تتعلَّق بالنَّجاسة أو الطَّهارة، إذ “كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ” (تي 1: 15).
المسألة هي القداسة أي اتّحادنا بالله بواسطة المسيح في نعمة الرُّوح القُدُس. القَدَاسَة يرفضها العالم ويَسْخَر من كلّ ترجماتها في حياة المؤمنين، فيحاول إظهارهم كمتخلّفين أو رجعيّين مُحارِبًا فيهم اِلتزامهم عيش الكلمة الإلهيَّة، هذا من جهة. أمّا الَّذين لم يَعرِفوا المَسيح بعد فيُشَوِّشُ ضميرهم مُضلِّلًا إيّاهم عن الحقّ بإغراء هوى العُجب من خلال وَهْمِ تحقيق وجودهم وأهمّيّتهم عبر أجسادهم المعروضة كطُعْمٍ لاستقطاب مَنْ حَوْلِهِم إليهم. وقد سبق الرَّسُول بولس فأنبأنا قائلًا “أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ،لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ،بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ للهِ…” (2 تي 3: 1 – 4).
المؤمن يعرف أنّ “الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ” (1 كو 6: 13)، وأنّه “صورة الله” (تك 1: 27) و”هيكل الله”، لذلك، شابًّا كان أم فتاة، رجلًا أم امرأة هو مدعوّ ليتعاطى جسده وكيانه على هذا الأساس، عالمًا أنّ كلّ ما يصنعه هو “لكي يتمجّد الله في كلّ شيء بيسوع المسيح” (1بطرس4: 11)…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما