نشرة كنيستي- الأحد (3) بعد العنصرة (آباء المجمع المسكونيّ الرّابع)- العدد 28
14 تمّوز 2024
كلمة الرّاعي
الجوع إلى الله
“أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا” (يو 6: 35)
يخاف الإنسان الجوع والعطش لئلّا يموت، ومع أنّه يأكل ويشرب فإنّه يموت أخيرًا. عندما يجوع الإنسان إلى الحياة يهرول إلى الملذّات الَّتي فيها ظنًّا منه، بوعي أو بدون وَعي بإدراكٍ أو بدون إدراك، أنّ الحياة في ملذّاتها تكمن. هذا سعي هباء و”قبض الرّيح” (جا 1 : 14). لكن، في كيان الإنسان جوعٌ لا يعرف أن يُشبعه، جوعٌ عميق وألمٌ كبير يتحكّم فيه لذا يطلب إسكاته. يبقى الإنسان في حيرة داخله، هو لا يعرف ماذا الّذي يقلقه ويقضّ مضجعه، لذلك يُخدِّر ذاته بمُسكِّنات اللَّذَّة والاستجابة لمتطلّبات طاقاته الغضبيَّة. يصير محكومًا من قوى خفيَّة داخليَّة لا يستطيع تحديدها لأنّه لا يعرفها، لكنّها تقوده إلى كلّ ما يُطفئ توتّره وشعوره بأنّه لا تعزية حقيقيّة له لأنّه لا يعرف سلام النّفس والقلب…
يُوهم الإنسان نفسه بالسَّعادة من خلال حياته الخارجيَّة الظّاهرة للعَيان عبر العَيْش برَفاه، وكأنّ ما هو خارج القلب يستطيع أن يملأه بالفرح. ما هو من الجسد وللجسد يبقى في حدود الجسد أمّا ما هو من القلب وله فإنّه يأتي من فوق، وهذا فقط يستطيع أن يمتدّ إلى ملء اللَّامحدود الَّذي في الإنسان، لأنّ ما هو محدود في الإنسان يعود إلى ترابيّته وما هو غير محدود يعود إلى صورة الله الَّتي هو عليها…
* * *
الإنسان مخلوقٌ على صورة الله وهو، تاليًا، لن يجد راحةً قبل أن يحقِّق مثال الله وشبهه. بكلماتٍ أخرى، يحتاجُ الإنسان أن يمتلئ من الله. هو جائعٌ كيانيًّا وعطشٌ إلى خالقه، لا شيء في هذه الفانية يستطيع أن يُسكِتَ ألم جوعه إلى الرّبّ. الألم أتى من السُّقوط من “إطفاء” (راجع 1 تس 5: 19) الإنسان لروح الله الَّذي فيه أي من خسارته إيّاه لأنّه رفض محبّة الله كونه عصى “الكلمة”. قبل السُّقوط كان الإنسان يغتذي تلقائيًّا من “شجرة الحياة” (تك 2: 9)، لكنّه حُرمها بسبب كبريائه وأنانيّته، ولذا لا يستطيع أن يأكل منها ما لم يمت عن إنسان سقوطه ويولد من جديد بالماء والرُّوح.
الرَّبُّ يسوع المسيح وهبنا في ذاته التَّجدُّد والولادة من الرُّوح القدس وفيه به… رجع روح الرّبّ يسكن في الإنسان بيسوع المسيح وليس خارجه أو دونه. من هنا، الخبرات الرُّوحيّة العميقة الّتي يحدّثنا عنها الآباء القدّيسون تكشف لنا ماهيّة الإنسان وحقيقته وما هو طريق تحقيقه لمصيره أو وجوده في الله أي أن يصير مسيحًا للرّبّ على صورة معلّمه…
* * *
أيُّها الأحبّاء، “طوبى للَّذين يقتات بخبز الحياة الَّذي هو يسوع لأنَّ الَّذي يقتات بالحُبِّ يقتات بالمسيح” (القدِّيس اسحق السُّوري). المطلوب واحد و”الحاجة إلى واحد” (لو 10: 42) الَّذي “هو الكائن” (خر 3: 14) وهو “المحبَّة” (1 يو 4: 8 و16). حاجة الإنسان إلى الحبِّ لانهائيَّة وغير محدودة لأنّ حاجته الجوهريَّة هي إلى الله الَّذي هو “خبزه الجوهريّ” (راجع مت 6: 11 ولو 11: 3) أي الَّذي بدونه لا ينوجد ولا يشبع ولا يرتاح…
يَتيه الإنسان في مسارات الحياة بحثًا عن شبع لوجوده، يبحث عنه في الكون والخليقة، في المجد والسَّعادة، في اللَّذات والرَّفاه، في القوّة والسُّلطة، إلخ. لكن هذه كلّها لا يمكن أن تُشبِع جوعه وعطشه الكيانيَّين، فقط حين يجد المسيح ويمتلئ من روحه يشبع ويفرح ويجد نفسه لأنَّ الصُّورة تجد مثالها وتتَّحِد به… وما عدا ذلك “باطل الأباطيل” (جا 1: 2)…
الحبُّ أي هذا الامتداد نحو الآخَر الكلِّيَّ بإفراغ الذَّات في فرح اللُّقيا وسرّ الوَحدة المنشود مع القدّوس هو تحقيق الوجود، لذلك فـ “الَّذي وَجَدَ الحُبِّ يشـبع بالمسيح كلّ يوم وكلّ ساعة” (القدِّيس اسحق السُّوريّ)… ويدخل سرّ الحياة الأبديَّة وملكوت الله منذ الآن…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما