نشرة كنيستي- الأحد الخامس من الصَّوْم (البارَّة مريم المصريّة)- العدد 14
06 نيسان 2025
كلمة الرّاعي
الثَّوْرَة الرُّوحيَّة عند مريم المصريَّة
“فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ…” (كو 3: 5).
الأحد الخامس من الصَّوْم الأربعينيّ المقدَّس هو أحد مريم المصريَّة، هذه الفتاة اللَّعُوب المـُحِبَّة للشَّهوات والطَّامِعَة بالملذَّات والواقِعَة في عبادة الذَّات. هي تعبُد نفسها وجسدها وتُنَصِّبُ نفسها إلهةً للمتعة، وتريد أن تَستَعْبِدَ بسِحْرِ جسدها وإغواء جمالها كلَّ إنسان. كيف صارت هكذا ووالديها من المؤمنين؟!… لا نعرف بالضَّبط، لكنّها تجرّأت في سنّ صغير على مغادرة بيت أهلها والرَّكض وراء إشباع شهواتها.
جيل اليوم عليه حربٌ كبيرة بما يختصّ بشهوات الجسد والسَّعِي إليها بسبب الإعلام والإعلان ووسائل التَّواصُل الَّتي تعمل، بشكلٍ عامّ، على التَّرويج لفلسفةِ المتعة بكافَّةِ الوَسائل المـُتاحَة الطَّبيعيّة وغير الطَّبيعيّة، كما تجهد لتحويل الإنسان من عبادة الله إلى عبادة الجسد. إنّها عمليّة غسل دماغ مُمَنْهَجَة يُعمَل عليها من قادة الاستهلاك في العالم للسَّيْطَرَة على الإنسان واستعبادِهِ والتَّحكُّم فيه إتمامًا لمصالحهم المتعلِّقَة بالمال والسُّلطة والسَّيْطَرة…
* * *
يَصِفُ القدِّيس يوحنّا السُّلَّميّ الحالة الَّتي كانت عليها القدِّيسة مريم المصريَّة حين يتحدّث عن الشّهوانيّين قائلًا إنّهم: “يحسُّون بنوعٍ مِنْ هيامٍ بالأجسام وكأنّه روحٌ طاغٍ لا يُشفِق، قائمًا بوضوح في وسط القلب، يجعلهم يشعرون بوَجَعٍ جسمانيّ مُلتَهِب كأتُونِ نارٍ ولا يخافون الله ويتهاوَنون بذِكْرِ العِقاب، مُستَخِفِّين به، ويَمْقُتون الصَّلاة، وأثناء إكمال الفعل عينه يحتَسِبُون الأجسادَ شِبْهَ مائتةٍ كحجارةٍ لا نَفْسَ لها، ويكونون كَمَن خرجوا عن رشدهم، ساهِين سكرانين على الدَّوام من جَرَّاءِ شهوتهم للخلائق النَّاطقة وغير النَّاطقة…” (كتاب “السلم إلى الله”، المقالة 15، المقطع 27). هذه كانت حال مريم المصريَّة في تعاطيها الجسد والشَّهوة، لكنَّ خطورتها كانت في أنّها تريد استدراج الآخَرين إلى جُبِّ هلاكها هذا. عملت هذا الأمر حين سافَرَتْ في السَّفينة من الإسكنْدَرِيَّة إلى أورشليم مع الحُجَّاج الذّاهبين لإكرام صليب الرَّبّ المُحيي، فحمَّلتْهُم صليب الشَّهْوة للموت، لكنَّ رحمة الله واسعةً لا حَدَّ لها إذ اصطادها الرَّبُّ بخطيئتها وشهوتها ليخلَّصها، فانقلب السِّحر على السَّاحر حين سُحِرَتْ مريم بحنان والدة الإله وطلبت شفاعتها. فهي إذْ عاشَتْ حياةً مليئةً بالخطايا والملذّات لمُدَّة سبعة عشر عامًا، حدثت نقطة التَّحوُّل في حياتها عندما حاولت دخول كنيسة القيامة في أورشليم خلال عيد الصَّليب المقدَّس. عند محاولتها الدُّخول، شعرت بقوَّةٍ خفِيَّةٍ تمنعها من عبور عتبة الكنيسة، بينما كان الآخَرون يدخلون بسهولة. حينها تَحَرَّكَ شيءٌ ما في قلبها، شيء من الإيمان الَّذي كان في طفولتها، فأدركَتْ أنَّ هذا المنع كان بسبب خطاياها وفساد حياتها. في تلك اللَّحظة، لجأتْ إلى الصَّلاة وطلبَتْ شفاعة السَّيِّدة العذراء مريم، متعهِّدَةً بتغيير حياتها إذا سُمح لها بالدُّخول. بعد ذلك، تمكَّنَتْ من الدُّخول إلى الكنيسة وشعرت بتغييرٍ داخليّ عميق. فقرَّرتْ أن تترك حياتها السَّابقة وتعيش في التَّوبة والنُّسْك في البرِّيَّة، حيث قَضَتْ بقِيَّة حياتها في الصَّلاة والتَّأمُّل بعد أن عاشتْ سبعة عشر عامًا من الجهاد للتَّحرُّر بنِعْمَةِ الله وشفاعة والدة الإله من حَرْب أهواء الجسد وشهواته وراسب حياتها الإباحِيَّة السَّابقة.
* * *
يا أحِبَّة، حياتنا في العالم مَسيرة توبَةٍ أي تغيير مستَمِرّ للفكر والقلب، وما مثال القدِّيسة مريم المصريَّة سوى مثل ساطع عن محبَّةِ الله اللَّامُتناهية لنا ورحمته غير المحدودة، وسعيه السِّرّيّ الدَّائم لجذبنا نحو الخلاص في الوقت المعروف لديه. الله لا يتركنا، هو يطلبنا يبحث عنّا ويجدنا ليخلَّصنا من عبوديّة العالم ليجعلنا عالمه الجديد في المسيح يسوع “الّذي بالرُّوحِ الأزليّ قرَّبَ نفسَهُ للهِ بلا عيبٍ، (وهو) يطهّرُ ضمائرَكم من الأعمالِ الميتةِ لتَعبُدوا الله الحيَّ” (عب 9: 14). إنَّ التَّوبَة هي حركةُ تطهير الضَّمير والقلب من أعمال الموت الَّتي هي عبادة الأجساد وطلب السُّلطة، أي هي سَعِي للعفَّة واستعبادٍ للذَّات في خدمة الآخَرين في المسيح، لأنّ “مَنْ أرادَ أن يكونَ فيكم كبيرًا فليَكُنْ لَكُمْ خادِمًا، وَمَن أراد أن يكونَ فيكمْ أوَّلَ فَلْيَكُنْ للجميع عَبْدًا” (مر 10: 44). الشَّهوة والسُّلطة وَجْهَان لعملةٍ واحِدَة هي عبادة الذّات، والتَّوْبة عنهما أي العودة إلى عبادة الله تكون بالعِفَّة والاتِّضاع اللَّذَين هما رُكْنَا الحياة الرُّوحيَّة لأنّ كلّ جهادٍ روحيّ جوهره التَّعفُّف أي تطهير الفكر والقلب والجسد والكيان برمَّتِه أي غايته التَّحرُّر من عبوديّة الشَّهوة والخطيئة والهوى، وثبات العِفَّة ونتائجها لا يكون إلَّا باقتناء التَّواضُع أي إخلاء الذَّات مِنْ كُلِّ تَعَلُّقٍ لِيَصيرَ المسيح فينا الكُلّ في الكُلّ، وهذا كمال حُرِّيَتنا الَّذي يُعطى لنا بالنِّعْمَة الإلهِيَّة. لكن، لننتبه ونتعلَّم مِنْ مِثال القدِّيسة مريم المصريَّة أنَّنا كلَّما غرقنا في الشَّهوات كلّما احتجنا نعمةً أكبر لنتحَمَّل عمليّة تطهير قلوبنا وتحريرها من العَدُوّ ومن الأهواء القابضة عليها… فلْنَسْلُك بمَخافَةِ الله، أوَّلًا، حتّى لا نَنْجَرِف بتيارات شهوات هذا العالم الَّتي تُحيط بنا بكثرةٍ في هذا الزَّمَن، ولْنَسِر في طريق طاعة الوصيَّة الَّتي تجعلنا نختبر قوّة الله في حياتنا ورحمته وعنايته وحنانه علينا نحن الخطأة وتحفظنا من الكبرياء وتمنحنا، أخيرًا، أن نعرف الله محبَّةً فنُسْلِمَ إليه حياتنا حبًّا إذْ يَصير هو حياتنا…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما