Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (15) من لوقا (زكّا)- العدد 4

26 كانون الثَّاني 2025

كلمة الرّاعي 

الثَّالوث القُدُّوس: الجوهر والأقانيم الثَّلاثة

في تعليم الآباء الكبادوكيِّين والذَّهبيّ الفم

في تاريخ اللَّاهوت المسيحيّ، يُشَكِّلُ تَعليم الآباء الكبادوك، باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللَّاهوتيّ وغريغوريوس النِّيصُصِي مع القدِّيس يوحنَّا الذَّهبيّ الفَم، ركيزةً أساسيَّةً لفهمنا العميق لسِرِّ الثَّالوث الأقدس. سنُحاول في هذه العجالة أنْ نُسَلِّطَ الضَّوْء على تعليمهم، باقتضاب، حول هذا الموضوع العقائديّ الأساسيّ والَّذي يُعتبر أوّل عقيدة تُمَيِّزُ الإيمان المسيحيّ وتطبعه بشكلٍ خاصّ، طبعًا، بالإضافة إلى سِرِّ التَّجَسُّد وسائر العقائد الأخرى الَّتي تنبثق من هذه العقيدة أو ترتبط بها.

*             *             *

قبل زمن الآباء الكبادوكيِّين لم يكن التَّمييز اللُّغَويّ واضحًا بين مُصْطَلَحَيْ ουσία أي جوهر، و υπόστασις أي أقنوم. فمصطلح οὐσία يُستَخدم في الفلسفة اليونانيَّة القديمة للإشارة إلى “الجوهر” أو “الماهِيَّة”. إنَّه يُشير إلى الطَّبيعة الأساسيَّة أو الكينونة لشيءٍ ما. استخدمه الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو لوَصْفِ ما هو الشّيء في ذاته، أي خصائصه الأساسيَّة. في أعمال أفلاطون، الـ”أوسيا” غالبًا ما تُشير إلى الأشكال المثاليَّة أو الحقيقة الحَقيقيَّة وراء الظَّواهر. بالنِّسبة لأرسطو، هي المادَّة الأساسيَّة الَّتي تدعم جميع الصِّفات والتَّغييرات. الهيبوستاسيس (باليونانيَّة: ὑπόστασις) تعني “الواقع الأساسيّ” أو “المادَّة”. استخدمها فلاسفة مثل أرسطو للإشارة إلى المادَّة التَّحتيَّة أو الواقع الأساسيّ الَّذي يدعم كلّ شيء آخَر. في الأفلاطونيَّة المحدّثة، تشير “الهيبوستاسيس” إلى المستويات المختلفة من الواقع، مثل النَّفس، العقل (نوس)، والواحد.

قام الآباء بخطوةٍ جريئة في إظهار الفرق بين المصطلَحَيْن واستخدامهما كمصطلَحَيْن لاهوتِيَّيْن جديدَيْن. ما كان يهمّ الآباء هو ما تعنيه الكلمة والحقيقة الآتية منها، فاصطلحوا أنَّ عبارة ουσία تتماهى مع عبارة φύσις وهي تُستَعمل للدّلالة على وحدانيّة الله. وقالوا إنّ للثَّالوث القدُّوس جوهر أو طبيعة واحدة ويعنون بها substantia. من جهةٍ ثانية، مصطلح υπόστασις جعلوه يتماهى مع مصطلح πρόσωπον أي أقنوم أو شخص. ولكن عبارة πρόσωπον فقدت كلّ دلالة سابيلّوسيّة وأصبحت تعني الشَّخص وليس القناع. أي ما هو موجود حقًّا وليس ما هو ظاهر فحسب. تاليًا، أصبحنا ندلّ على ثلاثة كائناتٍ حقيقيّة. ما يهمّنا لاهوتيًّا هو نتيجة ما قام به الآباء أي شرح وإيضاح عقيدة الثّالوث القدُّوس للمحيط الفلسفيّ وأنّها غير عبثيّة، فقالوا إنّ الله واحدٌ في الجوهر أو الطّبيعة وثلاثة في الأشخاص أو الأقانيم. وهكذا للمرّة الأولى كان مصطلح واحد لعقيدة الثّالوث القدّوس ولغة واحدة يتكلّمها سائر اللّاهوتيّين. هكذا وحّد الآباء الكبّادوك مصطلح اللَّاهوت فوصلنا إلى عقيدة الثّالوث كما نؤمن بها ونعبّر عنها اليوم.

*             *             *

القدِّيس باسيليوس الكبير، يوضح في تعاليمه الفرق بين الأقنوم (Hypostasis) والجوهر أو الطَّبيعة (Ousia). يقول: “ليس هناك ثلاثة آلهة، ولكن إلهٌ واحدٌ في ثلاثة أقانيم، الَّذين لا ينقسمون في الجوهر ولكن يختلفون في الأقانيم”. يُشدِّد باسيليوس على أنَّ الجوهر يُعَبِّر عن الطَّبيعة الإلهيَّة الواحدة المشتركة بين الآب والابن والرُّوح القُدس، بينما يُشير الأقنوم إلى الوجود الشَّخصيّ والفرديّ لكلٍّ منهم. الشَّخص يضمّ الطَّبيعة وليس العكس.

القدِّيس غريغوريوس اللَّاهوتيّ الَّذي يُعرَف بعمق تأمُّلاته اللَّاهوتيَّة حول سِرِّ الثَّالوث القدُّوس، يؤكِّد في أحد خطبه: “الآب هو الله، والابن هو الله، والرُّوح القدس هو الله، ولكنَّهم ليسوا ثلاثة آلهة بل إلهٍ واحد. في الثَّالوث، الوحدانِيَّة في الجَوهر، والتَّمايُز في الأقنوم”. يُبَيِّن غريغوريوس أنَّ فهمَنا للثَّالوث يجب أن يكون شامِلًا يجمع بين وَحدة الجوهر والتَّنوُّع في الأشخاص.

القدِّيس يوحنَّا الذَّهبيّ الفَم، مِنْ جهّته، يُشدِّدُ في عِظاته على العلاقة العمليَّة النَّاتجة عن الإيمان بالألوهة الواحدة الَّتي للآب والابن والرُّوح القدس في تمايُز أقانيمهم وترجمتها في حياة المؤمن اليوميَّة. يقول: “كما أنَّ الشَّمس والنُّور  والشُّعاع هي واحدة في الجوهر  ولكن مختلفة في الوجود، هكذا الآب والابن والرُّوح القدس”. يستخدم يوحنَّا الذَّهبيّ الفم أمثلة من الطَّبيعة لِتَوْضيح كيفيَّة الحفاظ على الوحدانيَّة في الجوهر مع التَّمايُز في الأقانيم.

*             *             *

أيُّها الأحِبَّاء، إنَّ العقائد ليست فلسفات أو نظريَّات لاهوتِيَّة لا تَمَسُّ حياتنا، بل هي جوهرُ ومعنى وجودنا، وإنْ لم نَعرفها ونؤمِن بها ونَعِشْها لا نحقِّق غاية خلقنا… فالله لأنَّه ثالوث فهو محبّة والمحبَّة شركة في وَحدةٍ وتمايُز، وَحدة الجوهر وتَمايُز الأقانيم، ولَوْلا هذا لما تجسَّد الله وأشْرَكَنا في ألوهِيَّتِهِ بابنه الوَحيد الجنس، ولما تحقَّقتْ لنا الشَّركة فيما بيننا والوَحدة في التَّمايُز، إذْ في الكنيسة جسد المسيح نتّحد مع الله الثَّالوث بالابن في الرُّوح القُدس، وندخل بالوَحدة مع يسوع في سِرِّ شركة الحياة الأبديَّة الَّتي هي حياة الثَّالوث القدُّوس، ونَتَألَّه، بالتَّالي، أيْ نَصيرَ شبيهين بالله مِنْ خِلال نعمة الثَّالوث القدُّوس بحسب مشيئة الآب في المسيح بالرُّوح القدس.

في الخلاصة، عَقيدة الثَّالوث ترتبط جوهريًّا بحياتنا وتُعطيها معناها، فإنْ لم يَكُن الله مثلَّث الأقانيم، فهو ليس محبَّة وشركة في وَحدةٍ وتمايُز وتاليًا لا تَجَسُّد ولا شركة لنا مع الله ولا وَحدَة. فلا كنيسة ولا روح قدس ولسنا مسكن الله ولا تعود النِّعْمة الإلهيَّة ساكنة فينا لأنّ الكنيسة ليست جسد ابن الله المتجسِّد ومطرح سكنى روحه القدُّوس في العالم. ممّا يعني بأنّه لا قداسة ولا حياة أبديَّة جوهرها الوَحدة مع الآب بالابن في الرُّوح القُدس والدُّخول في سِرِّ شركة المحبّة الإلهيَّة “Perichoresis” (περιχώρησις)… واقتناء حياة الله ومُشابَهَته… أي لا تألُّه… الإنسان يبقى في تُرابيّته وسُقوطه…

ومن استطاع أنْ يفهم فَلْيَفْهَم…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة