نشرة كنيستي- أحد مرفع الجبن (الغفران)- العدد 11
14 آذار 2021
كلمة الرّاعي
التّجدُّد بالغفران
“هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!” (رؤيا 21: 5)
ها نحن على عتبة الصّوم الكبير المقدَّس، ومدخلنا إليه هو باب الغفران. لا نستطيع أن نلج جهاد الصّوم إن لم نغفر لمن يُسيء إلينا ونستغفر ممَّن نسيء إليه. لا يقبلنا المسيح إن لم نعرف خطايانا ونَتُب عنها، لأنّ من لا يعرف نفسه خاطئًا يصبح ديَّانًا ولا يفقه معنى المسامحة ولا طلبها.
بوابة الصّوم والصَّلاة هي المغفرة، لأنّكم “إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ” (متّى 6: 15). من لا يُسامِح لا يستطيع أن يصلّي ولا أن يصوم. هذه مسألة مَحسومة. كلّ أموره الرّوحيّة تصير ظاهريًّا وليست عمل القلب. “القلب المتخشّع والمتواضِع لا يرذله الله” (مزمور 50: 17)، هذه هي روح الصّوم وروح الحياة المسيحيَّة. من لا ينسحق ويتواضع بمعرفة خطيئته لا يقدر أن يكون لله، وهو غير قادر أن يحبَّ أحدًا غير نفسه!…
* * *
ها نحن نعبر إلى حلبة الجهاد الرُّوحيّ حيث نواجه ليس البشر فحسب بل الشّياطين، “فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أفسس 6: 12). الإنسان المسيحيّ يجب أن يعيَ أنّ استقامة جهاده وجِدِّيَّته مسألة لا مساومة فيها، هو لا يقدر أن يسلك “إِجِر بالبور وإِجِر بالفلاحة”، هو إمَّا يكون جنديًّا للمسيح، مع كلّ ما تحمله كلمة “جنديّ” من معانٍ، وإمَّا أن يكون أسيرًا لعدوِّ الإنسان… الحياة الرُّوحيَّة هي حربٌ ضَروس تدور رحاها في القلب. لذلك، الإنسان المسيحيّ هو إنسانٌ مُصارِع وليس إنسانًا “رَخْوًا”، إنَّه شديد البَأْسِ والشّكيمة.
في مبادئ الجهاد الرّهبانيّ مقولة جوهريَّة لا تستقيم حياة الرّاهب من دونها وهي: “أعطِ دمًا وخُذْ روحًا”. هذه المقولة تعبِّر عن روح جهاد الصّوم في الكنيسة الأرثوذكسيّة. إنّها دعوة مستمرَّة لبذل الذّات في طاعة الوصيّة الإلهيَّة الَّتي هي التّوبة والمحبَّة. من ليس مستعدًّا للموت لأجل المسيح ليس مستعِدًّا لاقتبال الرّوح القدس في قلبه. أن نبذل الحياة لأجل الرّبّ هو أن نتخلَّى عن مشيئتنا وأن نصارع إنساننا العتيق الَّذي يطلب الرَّاحة في الكسل والاستهلاك لأجل إرضاء الذّات. الصّوم هو طريق معاكِس لطريق العالم. إنّه موت عن روح العالم وفكره ومبادئه، لأنّها كلّها تُحجِّرُ القلب إذ تدفع بالإنسان إلى تأليه نفسه بإزاء الله. يضع الإنسان نفسه إلهًا مقابل الله!…
* * *
أيُّها الأحبَّاء، ها زمن الرّبيع الرُّوحيّ قد أَقْبَلَ. حركة اللّيتورجيا على مدار السّنة تدفعنا إلى ارتقاء مستمرّ من حالة إلى حالة أسمى في الرُّوح القدس، لمن يسلكون بجِدِّيَّةٍ في طاعة خبرة الكنيسة المقدَّسة. أساس ارتقائنا الرُّوحيّ هو التّواضع والسَّير في الطّريق الَّذي رسمه لنا الآباء القدّيسون في حياتهم وفي تعاليمهم وفي خبرتهم الّتي سكبوها في اللّيتورجيا أيقونةَ رجاءٍ، للمتعبين والسّاقطين والضّعفاء، كمرشدٍ إلى التّوبة وتجديد إنساننا الدّاخليّ بالصّلاة والصّوم ومعرفة النَّفس البشريَّة على حقيقتها وأسباب سقوطها ووسائل نهوضها وصولًا إلى قيامة حقيقيَّة بالرّوح القدس على صورة المسيح النّاهض من القبر. “من يعترف بخطاياه ويتوب عنها أعظم من الَّذي يُقيم الموتى”، يقول القدّيس اسحق السّريانيّ. ومن يغفر لمن يسيء إليه دون أن يحاسبَه أو يحاكمَه يشبه ميتًا قد انتَن قام من القبرِ إلى حياةٍ جديدة بروح الله…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما