Menu Close

نشرة كنيستي- أحد الابن الشّاطر – العدد 7

16 شباط 2025

اللّحن 1- الإيوثينا 1

كلمة الرّاعي 

التَّوبة باب الرَّحمة

الإنسان والجسد

للإنسان جسد (σῶμα) ولكن ليس بالضَّرورة أن يكون الإنسان جسدانيًّا (σαρκίkος) أي يحيا لأجل البَدَن ومَلذّاته، فالجسد (σῶμα) هو الظَّاهر مِنَ الشَّخص وهو يُعبِّر عن الكَيان البَدَنيّ (σαρκίkος) والرُّوحيّ (πνευματικός) للإنسان، ولذلك نعرف الشَّخص من جسده وصفاته، لكنّه أبعد من الجسد فهو شخصٌ له بُعدٌ مادّيٌّ وبُعدٌ روحيٌّ. ما خَفِيَ من الإنسان أعظم ممّا يظهر منه. الرُّوح لا تُرى، لكنّ الرُّوح هي سرُّ الإنسان الإلهيّ (le mystère divin de l’homme) لأن “الله روح” (يوحنّا 4: 24)، وروح الإنسان في البدء كانت متّحدة بروح الله (راجع تكوين 2: 7) إذ خُلقت بنسمة فِيهِ الخالق.

يميِّز بولس الرَّسُول بين الإنسان الرُّوحيّ (πνευματικός) والإنسان الجسدانيّ (σαρκίkος) أو النَّفسانيّ (ψυχικὸς): “وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ (ψυχικὸς) لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا” (1 كو 2: 14)، والرَّسُول يهوذا غير الإسخريوطيّ يقول في هذا المجال: “هؤُلاَءِ هُمُ الْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ (ψυχικοί) لاَ رُوحَ لَهُمْ” (يه 1: 19). بولس الرَّسُول، أيضًا، يوضح صفات الإنسان الجسدانيّ: “أَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ (σαρκικοί). فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ (σαρκικοί) وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ” (1 كو 3: 3).

الإنسان إمّا أن يكون مُنقادًا مِن روح الله فيكون إنسانًا روحيًّا يصنع مشيئة الله ويتشبّه به وتفعلُ فيه النِّعْمة الإلهيَّة، إمّا أن يكون إنسانًا منقادًا إلى شهواته وأهوائه وخاضعًا لسُلطان الخطيئة والسُّقوط…

*             *             *

الجسد بمعنى البَدَن يُحارِب الرُّوح: “لأَنَّ الْجَسَدَ (σάρξ) يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوح وَالرُّوح ضِدَّ الْجَسَدِ” (غلاطية 5: 17)، أمّا الجسد بمعنى الكيان الإنسانيّ (σῶμα) فهو مَسكنُ الرُّوح القدس: “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمْ” (1 كو 6: 19).

في إنجيل الابن الشَّاطر، نرى أنَّ هذا الشّابّ مُنقاد إلى الجسدانيّة الَّتي فيه أي إلى أهواء هذا العالم وملذّاته، والطَّريق إليها هو المال الَّذي يجعلها وفيرة، ولكنّ عاقبتها التَّمرُّغ في أوحال البَهيميَّة والغرائز الحيوانيَّة الَّتي تُسَيْطر على الإنسان حين يفقد روح الله… لذلك، طلب من أبيه الميراث وذهب إلى كورةٍ بعيدة وصرفه على الـ “خلاعة”. “حضارة” اليوم جوهرها الخلاعة والانحلال الأخلاقيّ بسبب هجران الإنسان لله… بِدون روح الرَّبّ ما هو الإنسان؟!… حيوانٌ ناطق!… لديه إمكانيَّات عقليَّة وطاقات طبيعيَّة غير محدودة لكنّها موجّهة نحو إرضاء الذّات الشّهوانيَّة… لأنّه إن لم يكن الله موجودًا فليست هذه الحياة سوى غايةٌ بِحَدِّ ذاتها وتاليًا لا مَعنى لها خارج هذا العالم وما يُسعِدُ الإنسان فيه أي ما يُشبِعُ أنانيّته وكبرياءه… فهو لن يشعر بوجوده ما لم يستهلك لينوجد… وأوّل ما يستهلكه هو ذاته من خلال إشباع شهواته الَّتي لا تشبع!… وبذلك يصل إلى الفراغ الكيانيّ أي طمس صورة الله فيه عوض أن يصل إلى إفراغ ذاته أي تجلِّي صورة الله فيه…

*             *             *

يا أحبَّة، لا خَلاص لنا من شطارتنا الَّتي هي انشطارنا عن الله وتاليًا انشطار كياننا الدَّاخليّ من خلال الحرب الَّتي تدور فيه بين الرُّوحيّ (πνευματικός) والجسدانيّ (σαρκίkος) إلَّا بالتَّوبة (μετάνοια) (مِتَانِيَا). وهذه الكلمة تتكوَّن مِن جزأيْن: “μετά” (ميتا) بمعنى “بعد” أو “تغيير”، و”νοῦς” (نوس) بمعنى “العقل” أو “الفكر”. لذا، تعني الكلمة حرفيًا “تغيير العقل” أو “تغيير الفكر”، ممَّا يعكس فكرة التَّوبة كعمليَّة تَحوُّل وتجديدٍ للفِكِر والرُّوح وبالتَّالي للحياة كلّها. التَّوْبة تغييرٌ جذْرِيّ في جوهر الكيان البشريّ العاقل والمفكِّر والمقرِّر حيث يتحقَّق هذا التّغيير بقوّة الله ونعمته بعد أن يصير الإنسانُ مستعدًّا للسَّماع إذ يكون قد استنفد كلّ قواه في إشباع أهوائه وشهواته. حين يصل الإنسان إلى الحضيض، ويشتهي أن يملأ كيانه من أيّ شيء حتّى طعام الخنازير النَّجِسَة لأنّه لم يَعُد قادرًا على دفع أيّ ثمن للحصول على ما يجعله يستمرّ في الوجود، أي حين يصل، بسبب إسرافه في عبوديّة شهواته، إلى حافَّة اليأس ولكنّه متمسِّك بالحياة، حينها يصير قابلًا لسماع محبّة الله تناديه إلى النُّهوض بالتَّوبة وتغيير فكره عن الحياة بعد أن يكون فَهِمَ أنَّ لا شيء في هذه الحياة يستأهل أن يخسر الإنسان حياته من أجله، ويدرك أنّ الله المحبّ البشر والإنسان المحب الله الَّذي هو حضور الله في حياته هو أثمن ما في الوجود وما بعد الوجود… حينها يعرف الإنسان الله أبًا رحيمًا عطوفًا حنونًا غفورًا صبورًا على عبيده ومنتظرًا عودتهم إليه ليجعلهم أبناءً له وورثةً لحياته وفرحه وسلامه… وهذا هو “كما هو مكتوب: ما لم تَرَ عَيْن ولم تسمع أُذُن ولم يخطر على بالِ إنسانٍ، ما أعَدَّهُ الله للَّذين يحبُّونه”(1 كو 2: 9)… هكذا بالتَّوبة يتحوَّل بنعمة الله في التَّوبة الإنسان الجسدانيّ والنَّفسانيّ إلى إنسان حقّ روحيّ يعيش بروح الله وفيه ومنه وإليه…

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة