نشرة كنيستي- الأحد (4) بعد الفصح (السّامريّة)- العدد 22
02 حزيران 2024
كلمة الرّاعي
التَّنقية بالماء الحيّ والحياة الجديدة
“مَن يشربُ من الماء الَّذي أنا أُعْطِيهِ لهُ فلَنْ يعطشَ إلى الأبد، بَلِ الماءُ الَّذي أُعطيِه لهُ يصيرُ فيهِ يَنبوعَ ماءٍ يَنْبُعُ إلى حياةٍ أبديَّة” (يو 4: 14)
يُعَدّ الماء العنصر الأساسيّ في حياة جميع الكائنات الحَيَّة. يُسهّل الماء عمل الخليّة الحيويَّة مِنْ خلال نقل المواد المغذّيَة والفضلات، ويُعزّز التَّفاعلات الكيميائيَّة الضّروريّة لاستمرار الحياة. أكثر من خمسين في المئة من تكوين الإنسان هو ماء. الماء حياة وفقدانه موت. أمّا الماء الحيّ الَّذي من يسوع وبه فمن يشربه “لن يعطش إلى الأبد … (و) يصيرُ فيهِ يَنبوعَ ماءٍ يَنْبُعُ إلى حياةٍ أبديَّة”. هذا الماء هو الرُّوح القدس، الَّذي فيه الكلمة الإلهيَّة تطهِّر وتنقّي، كما يوضح الرَّسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس بأنّ المسيح قدّس الكنيسة بالغسل بالكلمة الإلهيَّة (راجع أف 5: 26)، رمزًا للمعموديَّة.
التَّنقية بالماء ترمز إلى الغسل الرُّوحيّ والتَّجديد. في المسيحيَّة يُعتبر الماء مثالًا على التَّنقية والحياة الجديدة انطلاقًا من معموديَّة يوحنّا الّتي كانت تحضيرًا لمعموديَّة الولادة الجديدة بـ “الماء والرُّوح” (راجع يو 3: 5). فالمعموديَّة تجديد لحياة المعمَّد بموته عن إنسانه العتيق وولادته في المسيح وعلى صورته إلى بنوّة الله وميراث الحياة الأبديَّة (راجع رو 6: 3 – 8).
بدون المعموديَّة أي لبس المسيح والحصول على صورته كولادة جديدة للمعمَّد الخارج من مياه جرن الخليقة الجديدة، لا يستطيع الإنسان أن يقتني الحياة الأبديَّة المـُعطاة بنعمة الرُّوح القُدُس…
* * *
كلمة الله هي نبع الماء الحَيّ للمؤمن، وهي مياه جارية مُجدِّدة ومُنَقّية. بدون الرُّوح القدس لا تستقرُّ الكلمة الإلهيَّة في الإنسان، وبدون الكلمة لا يستقرُّ الرُّوح القدس فيه أيضًا. الكلمة الإلهيَّة لا تنفصل عن “اللّوغوس”، هي إيّاه مُعطيًا ذاته لنا “كلام حياة أبديَّة” (يو 6: 68) بالرُّوح القدس. حيث الكلمة هناك الرُّوح، وحيث الرُّوح هناك الكلمة. وحيث الكلمة والرُّوح هناك الآب. الابن يقود النّاس إلى الآب، “لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (يو 14: 6)، والرُّوح يأتي بالنّاس إلى الكلمة-الرّبّ يسوع المسيح بشهادة الآب (راجع مثلًا مت 3: 16).
المرأة السّامريَّة رَوَتْ عطشها إلى الله، إلى الحقيقة بكلمة يسوع، وقد اغتسلتْ بحقِّ الكلمة إذْ اعترفت بخطيئتها، فصارت لها كلمة يسوع مياه ولادة جديدة إذ ماتت بتوبتها عن حياتها العتيقة وآمنت بالـ “مسّيّا” وصارت أوّل كارزة بيسوع مسيحًا للرّبّ ومخلِّصًا (راجع يو 4: 39 – 42).
المرأة السّامريَّة كانت تعيش عطش الخطيئة الدّائم الَّذي لا يرتوي، وهو ما كان يزيد غرقها في مياه الإثم الآسنة وفي رمالها المتحرِّكة، قلبها لم يكن ليرتوي بإشباع اللّذَّة، والهوى كان قابضًا عليها في سلاسل عبوديَّة الجسد. كلمة المسيح الحنونة كَسَرَتْ قُيودَها ورَوَتْ قلبها فذاقت خبرة الحياة الجديدة بيسوع وتحرّكت نحو شعبها راغبة خلاصهم أيضًا.
* * *
أيُّها الأحبّاء، كلّ إنسان عَطِشٌ كيانيًّا إلى الله، وإن لم يجده يخترع له آلهة يعبدها، ويُلهي نفسه بارتباطات عابرة لينسى ألمه العميق الوجوديّ. هذه، تلوِّث قلب الإنسان وحياته، تجعله جسدانيًّا (راجع غل 5: 19 – 2)، فلا يعود ساعيًا للحياة الأبديَّة بل للوقتيَّة، ويطلب الفانيات عوض الباقيات، ويطلب ما لنفسه عوض ما لله في نفسه وفي الآخَر، بكلمةٍ أخرى يَحيا أنانيًّا أي مُلْحِدًا… لأنّ من ليس الله موجودًا في حياته فليس الآخَر موجودًا أيضًا في حياته… هو لا يحيا في شركة مع أحد سوى مع ذاته، منغلقًا عليها غارقًا في مستنقعها المنتن، فلا يرى في الآخرين سوى نتانة خطاياه وأهوائه في حين أنّه هو المنتن والَّذي يحتاج إلى الغسل والتّطهير…
مَنْ عرفَ المسيحَ هو الَّذي قَبِلَ أن يجدَه المسيحُ أي اعترفَ بوجودِه في حياتِه وخَبِرَهُ ينبوعَ حياةٍ يُروي ظمأه الوجوديّ بسكيب حنانه المهراق عليه في قبوله إيّاه رغم خطاياه وأوساخه محبوبًا إذ شاء إراقة دمائه الزَّكيّة من أجله على الصّليب ليخلّصه من سلطان الموت ومصدره أي الخطيئة…
لتكن لنا كلمة الله ماء غسل لقلوبنا بنعمة الرُّوح القدس، إذ يُتوِّبنا الرّبّ برحمته ويغفر لنا برأفته، ويفتح لنا باب الحياة الأبديَّة بقوّة قيامته…
فهل مِنْ عارفٍ لخطاياه وتائبٍ عنها وغاسل لها بمياه كلمة الله المنسكبة دموعًا من مُقْلَتَيْه لتطهير كلّ الكيان بنعمة الرُّوح ومحبّة الله الآب في يسوع المسيح الغالب؟!…
ماران أثا…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما