نشرة كنيستي- أحد الأرثوذكسيّة- العدد 12
الأحد 21 آذار 2021
كلمة الرّاعي
استقامة الرّأي في زمن الانحرافات
”وَقَدِ ارْتَدَّ الْحَقُّ إِلَى الْوَرَاءِ، وَالْعَدْلُ يَقِفُ بَعِيدًا.
لأَنَّ الصِّدْقَ سَقَطَ فِي الشَّارِعِ، وَالاسْتِقَامَةَ
لاَ تَسْتَطِيعُ الدُّخُولَ…“ (إشعياء 59: 14)
نعيش في زمن يستشرس فيه إبليس وزبانيّته في تدمير الإنسانيّة وفي استعمال الجور والظّلم لاستعباد البشر. من لا يقبل أن يكون عبدًا يُقضى عليه. يستخدمون كلام الكذب تحت غطاء الحقّ للوصول إلى مصالحهم والحصول عليها ولو على جثث وأشلاء شعوب وأوطان وكنائس الله…
ينتظر البشر، في هذا العالم، عدلًا من عبيد المال والسّلطة والشّهوات، الَّذين هم يدعونهم أسيادًا ورؤساء ومسؤولين. إنّ هذا هو ”باطل الأباطيل وقبض الرّيح“ (جامعة 1: 14). هذا هو سبب سقوط الشّعوب والأمم وخراب الكنيسة أنّ البشر يطلبون سلطانًا بحسب مفهوم هذا العالم. فهل من المنطق أن تتوقَّع ”استقامة“ من ”أُولئِكَ الَّذِينَ يَخْزِنُونَ الظُّلْمَ وَالاغْتِصَابَ فِي قُصُورِهِمْ“؟! (عاموس 3: 10).
* * *
”اِسْتِقَامَةُ الْمُسْتَقِيمِينَ تَهْدِيهِمْ، وَاعْوِجَاجُ الْغَادِرِينَ يُخْرِبُهُمْ“ (امثال 11: 3). لا يحقّ للمؤمن بالرّبّ يسوع المسيح، الَّذي بذل دماءه على الصّليب لأجل البشريّة والخليقة جمعاء، أن يُسَوِّف الحقّ ويقبل بالباطل. لا يستطيع أن يساير الظَّالمين وأن يسكت عن الشّرّ. هذا دور كلّ مسيحيّ مستقيم في موقعه ودوره. لا خلاص للبشريّة إلّا في المسيح، والمسيح حاضر وفاعل في كنيسته وبها أي في المؤمنين به فيهم وبهم. هل يمكن أن نتوقَّع شهادة للحقّ ممّن لا يعرفون الحقّ؟! من يعرف الحقّ يكون حُرًّا من المصالح الذّاتيَّة ولا يصنع إلّا ما يعبِّر عن وصيّة الله. ”مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟“ (متى 7: 16). لا طالما كان النّاس يميلون إلى ”القويّ“ أي صاحب السّلطة والمال. لكن، من يثبت هو المُستَعبِدُ ذاته للحقّ لأنّه حُرّ. من تحرَّر بالمسيح صار في الحقّ، ومن كان في الحقّ يصبح عثرة أمام الظّالمين، ولكن ”كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: “هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى“ (رومية 9: 33).
* * *
تاريخ الكنيسة مليء بالاضطهادات. حرب الأيقونات دامت حوالي المئة وعشرين سنة، حيث دُمّرت وأُحْرِقَت الكثير من الأيقونات، وسُفكت فيها دماء عديدة من الرّهبان والمؤمنين الَّذين دافعوا بشراسة عن لاهوت الأيقونة وارتباطها بسرّ التّجسّد. سنة 842 م. انتصرت العقيدة القويمة واحتُفِل بأحد الأرثوذكسيّة الأوّل في الأحد الأوّل من الصوم الكبير. الغلبة للرّبّ في وجدان المؤمنين المستقيمي الرّأي الَّذين فيهم يحفظ الرّبّ كنيسته ”مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ“ (أفسس 5: 27).
إيماننا بالتِّجسُّد يجعل الله حاضرًا معنا وفينا بنعمته، وفاعلًا بقدرته في الَّذين يسلمونه كيانهم ووجودهم إذ يعرفون أنهم منه أتوا وإليه يعودون (راجع يوحنا 1: 12—13 و15: 19)، وبه يحيون ويتحرّكون ويوجدون (راجع أعمال 17: 28). إيماننا بالتّجسُد هو تجسيد لعيشنا مع الله وسكنى الله فينا بالنّعمة، وبالتّالي لعمل الله في الإنسان. المسيحيّ يُدرك أنّه لا يستطيع أن يصنع شيئًا بدون المسيح (راجع يوحنا 15: 5)، وهو في المسيح قادر على كلّ شيء (راجع فيليبي 4: 13).
* * *
أيُّها الأحبَّاء، إن لم يكن إيماننا قويمًا فلا طائل من صلواتنا وأصوامنا وأعمالنا، لأنّه ما لم يتغيَّر القلب بالنّعمة في استقامة الجهاد الرّوحيّ بفحص الوصيّة الإلهيَّة ودوائها لا يقدر الإنسان أن يصنع مشيئة الله في حياته الدّاخليّة ولا مع عائلته ولا مع مجتمعه ولا في أيّ إطار آخَر. معرفتنا المشوَّهَة عن الله تؤدِّي إلى علاقة غير أصيلة به ناتجة عن الصّورة المغايرة لحقيقته الَّتي نصفه بها.
من هنا أهمّيّة تأكيد الكنيسة على استقامة الإيمان والعقيدة لخلاص الإنسان واقتناء نعمة الله، إذ إنّ معرفتنا بالله-الثّالوث أتت من كشفه ذاته لنا في ابنه المتجسِّد، ومن إدخاله إيّانا في سرّ وجوده بواسطة اتّحادنا بجسد ودم ابنه المقدَّسَين، لنصير أيقونات تُظهِر وجه يسوع المسيح في استقامة الحياة بطاعة الوصيَّة الإلهيَّة. كيف يُعرَف المستقيم الرّأي من المنحرف؟ من خلال شبهه بالمسيح يسوع الإله المتأنِّس في ثمار الرّوح القدس الظّهرة في حياته والّتي هي: ”مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ“ (غلاطية 5: 22—23)، ومن خلال بذله لحياته إذ نرى عنده بأنّ ”الحياة هي المسيح والموت ربح“ (فيليبي 1: 21).
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما