Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد الأوَّل من الصَّوْم (الأرثوذكسيّة)- العدد 10

09 آذار 2025

كلمة الرّاعي 

استقامة الإيمان

“لكِنْ إِنْ كُنْتُ أَتَأَخَّرُ فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ،

الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ.” (1 تي 3: 15)

استقامة الإيمان ترتبط بالحقّ الإلهيّ ومعرفة الله. لا استقامة في الإيمان دون استقامة في شهادة الإيمان الدَّاخليّة والخارجيَّة في حياة المؤمن. داخليًّا على صعيد توبته وخارجيًّا على صعيد علاقته مع الآخَرين والكَوْن. فالمؤمن يَسْعَى لِعَيْشِ الحقّ، والحقّ يُكشف للأطهار والأنقياء القلوب بالرُّوح القدس، ولا قلب نَقيّ بدون توبة حقيقيّة مستمرّة، ولا توبة حقيقيّة دون نعمة الله ودون فحص مستمرّ للذّات بالكلمة الإلهيَّة في الصَّلاة والتَّأمُّل والقراءة والعمل…

إنّ تجسُّد ابن الله الوحيد أدخل تغييرًا جذريًّا في حياة الإنسان، لأنّ الله صار إنسانًا وهذا، من جهة، يقلب مَوازين المنطق إذْ يصير تعاطي الوجود المخلوق في الله وبواسطته، ومن جهة أخرى، يصير الله حاضرًا وملتصقًا كيانيًّا بالمخلوق في أقنوم الكلمة المتجسِّد الرَّبّ يسوع المسيح. قبل التّجسُّد كان الله حاضرًا في التَّاريخ ومع الإنسان وفي الكَوْن بتدخُّلات مُحَدَّدة عبر أحداث وأشخاص معيّنين، أمّا بعد التّجسُّد والعنصرة فصار الله ساكنًا في الإنسان المعتمد على اسم الثَّالوث القدُّوس والمتَّحِد بالمسيح في المعموديّة المقدَّسَة والأسرار…

*             *             *

الله صار مَنظورًا في ابنه الوحيد يسوع المسيح بحسب الجسد الَّذي اتَّخذه من الرُّوح القدُس ومن مريم العذراء. الأقنوم الثَّاني هو الَّذي تجسَّد، لا الآب ولا الرُّوح القدس، فالآب غير منظور إلَّا بالابن والرُّوح القدس كذلك. فقط الابن هو الَّذي ظهر في العهد القديم بهيئة “ملاك الرَّبّ” أو “ملاك يهوه” وهو الَّذي صار إنسانًا مثلنا ما خلا الخطيئة. هذا هو سرّ الأسرار، “السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ” (كو 1: 26). “وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوح، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ” (1 تي 3: 16).

إذًا، الإيمان القويم مبنيّ على سرّ التّجسُّد واتّخاذ الله ما للإنسان لكي يهب الإنسان ما لله. أخذَ طبيعتَنا وخلَّصَها لكي يهبنا فيه الشِّرْكة مع طبيعته الإلهيَّة (راجع 2 بطرس 1: 4) بنعمة الرُّوح القدس. الإيمان القويم مبنيّ على الإيمان بتألُّه الإنسان أي بصيرورته على شبه الله بواسطة سُكنى النِّعْمَة الإلهيَّة فيه أي اتّحاده بالله. شركتنا مع الطَّبيعة الإلهيَّة تعني اتِّخاذنا صفات الله بالنِّعْمَة كالمحبَّة والفرح والسَّلام واللُّطف والوداعة والتَّواضع إلخ.، هذا من جهة، ودخولنا في النُّور الإلهيّ غير المخلوق ودخوله فينا واتِّحادنا فيه واتّحاده فينا. بكلام آخر نحن نتّحد مع الله “الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الأَبَدِيَّةُ. آمِينَ.” (1 تي 6: 16)، هذا اتِّحاد في تمايُز بين الله وبيننا، اتِّحاد دون اختلاط أو ذوبان في ملء الحرّيّة والتَّمايُز…

*             *             *

أيُّها الأحبّاء، أنْ نعرف الحقّ وأن نكون أبناء الإيمان المستقيم هذا لا يجعلنا أفضل من غيرنا ولا يمنحنا الحقّ بأن نحكم على الآخَرين أو أن نَدينهم، بالأحرى هذه مسؤولِيَّة عُظمى حتّى نكون شهودًا للحِقّ الإلهيّ الَّذي مُنحنا أن نعرفه ويُسَلّم إلينا، نحن غير المستحقّين، من أجيال وأجيال عانت ما عانت من الاضطهاد والاستشهاد وعاشت ما عاشت من النُّسك والبرارة. أن نكون أبناء الكنيسة المستقيمة الرّأي لا يجب أن يدفعنا لنكون رافضين للآخَرين أو محارِبين لهم، بالعكس علينا أن نكون محبّين حاضنين للآخَرين لنكشف لهم حلاوة الله ونشدّهم إلى كنيسته المقدَّسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرَّسُوليَّة… نحن نكشف معنى استقامة الإيمان بحياة القداسة والتَّقوى في علاقتنا مع الكَوْن ومع كلّ أطياف البشر المختَلِفين عنّا إيمانيًّا وعقائديًّا وفلسفيًّا وحضاريًّا، فواجبنا أن نبشِّر، وأنت لا تستطيع أن تبشّر من ترفضه أو من تحاربه، عليك أن تحبّ لتبشِّر، وهذا ما يعلّمنا إيَّاه بولس “رسول الأمم” إذ يقول: “فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ – مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ – لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ” (1 كو 9: 19 – 23).

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة