نشرة كنيستي- الأحد بعد عيد الميلاد- العدد 53
31 كانون الأوّل 2023
كلمة الرّاعي
استعلان الله المثلّث الأقانيم تجديد للزَّمن ودخول في سرّ الدّهر الآتي
يعيش الإنسان المُعاصر أزمة وجود بسبب انعدام قيمة الحياة الإنسانيَّة واعتبار البشر أرقامًا عند الدُّوَل المستحكمة بالعالم. الإنسانيَّة في انحدار وسقوط يزداد يومًا بعد يوم، وللأسف نجد ”كنائسًا“ تخضع يومًا بعد يوم لمنطق العالم ومفاهيمه عوَض أن تنير بإيمانها وتعاليمها ظلمة هذا الدّهر. صانعو الفساد يعملون لبثّ سمومهم في كلّ مكان، ”حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا“ (متّى 24: 24).
لا يستطيع المسيحيّون أن يعيشوا وكأنَّ المسيح لم يأتِ ولم يتجسَّد ولم يهبنا نعمته الإلهيَّة ويجدِّدنا بحقّه. إلزاميَّة الشَّهادة موضوعة على عاتقنا جميعًا. لا مَفَرَّ من المواجهة مع العالم وفكر العالم المنحرف. لا زال يوجد ”قطيع صغير“ (لوقا 12: 32) و ”سبعة آلاف“ لم يُحنوا ركبةً لبعل (1 ملوك 19: 18).
ودّعنا عيد الميلاد وها نحن نُعيّد لعيد الظّهور الإلهيّ. العيدان هما كشف لسرّ الله الَّذي كان محتجبًا في الرُّموز قبلًا والَّذي استُعلن بشكلٍ كاملٍ في المسيح يسوع، فدخلنا إلى سرّ المعرفةّ الإلهيَّة بالنِّعمة وسكن فينا نور الحقيقة وأُعطينا بقوّة الله مسؤوليَّة الشَّهادة للحقّ وبثّ النّور في العالم.
* * *
الحياة الجديدة أُعطيت لنا في كشف سرّ الله المثلّث الأقانيم، لأنّ الرُّسوم الظّليّة حول الله-المحبَّة قد أُعلِنَت بأجلى بيان في تجسُّد الكلمة وميلاده وظهور الآب والابن والرُّوح القدس في معموديّة يسوع المسيح بيد يوحنّا في الأردنّ.
ماذا يعني لنا أن نعرف أنّ الله ثالوث؟ طبعًا، المسألة ليست نظريّة أو فلسفيَّة الطّابع، بل هي جوهريّة لمعنى وجودنا كبشر وغايته. الإنسان ليس كسائر المخلوقات الرُّوحيّة أو الماديَّة، هو أشمل لأنّه يجمع الإثنين فيه مع سرّ كونه على صورة الله. الإنسان كما أُظهِر في المسيح هو شركة، هو ليس فردًا منفصلًا عن الباقين، هو جزء وكلّ في آن معًا. هو جزء لأنّه عضو في جسد المسيح وهو كلّ لأنّه كون مصغَّر (Microcosmos). بطبيعته هو يحتاج الله، وجوعه الكيانيّ هو إلى الَّذي أوجده، كما أنّه لا يرى في نفسه كائنًا زائلًا بل أبديًّا وهذا أيضًا من صورة الله فيه. لذلك، يحيا الإنسان حين يتعاطى سرّ وجوده من حقيقة كونه على صورة الخالق. إذا لم يعرف الإنسان نفسه انطلاقًا من هذه الحقيقة السّريّة (mystique) ويحيا أسراريًّا (sacramentellement) يبقى محدودًا في إطار البشرة والمخلوقيَّة وحدود الزّمان والمكان.
* * *
أيّها الأحبّاء، معنى الوجود وغايته هو التّحرُّك الدّائم في ثبات النّموّ في معرفة الله في اللّازمان واللّامكان، أي في سرّ حضرة الله الّتي تتخطّى كلّ معقول ومُدرَك بالمنطق البشريّ والّتي هي خبرة العيش في سرّ النّعمة الإلهيّة أي الاتّحاد بالله من دون امتزاج أو ذوبان به أو انفصال أو انقسام عنه.
في المسيح أُعطينا ليس فقط أن نعرف بل أن نختبر ونتذوّق منذ الآن أسرار الدّهر الآتي بواسطة نعمة الثّالوث القدّوس المنسكبة علينا بالرُّوح القدس في الكنيسة—جسد المسيح حتّى نعرف الله الآب في الكلمة والرُّوح.
هذا مصدر التّجديد المستمرّ في حياة المؤمن، وهذا ما نسمّيه تقديس الزّمان والمكان. عندما نعرف أنّا وُهبنا الاتّحاد بالله في الأسرار وفي عيشنا مع الله وفيه من خلال سرّ النّعمة، وأنّنا مدعوون لتقديس الخليقة عبر تقديس حياتنا أي عيشنا الحياة كسرّ (sacrament) تصير كلّ لحظة وكلّ مكان وكلّ عمل خبرات لعيش الخلق الجديد أو الولادة الجديدة في الله عبر سرّ الشّركة، الشّركة مع الله الثّالوث والشَّركة مع الإنسان. هكذا تصير حياتنا زمنًا جديدًا موصولًا بالأبديَّة وتصير أعمالنا خبرات من حياة الدّهر الآتي.
الطَّريق لعيش هذا هو ”أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ“ (ومية 12: 1 و2).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما