نشرة كنيستي- الأحد قبل عيد الظّهور- العدد 1
03 كانون الثّاني 2021
كلمة الرّاعي
استعلان الثّالوث في قلوبنا
”وَأَنْتَ فَلْيَكُنِ اللهُ فِي قَلْبِكَ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تَرْضَى بِالْخَطِيئَةِ وَتَتَعَدَّى وَصَايَا الرَّبِّ إِلهِنَا“ (طوبيَّا 4: 6).
في عماد الرَّبّ يسوع المسيح من يوحنّا في الأردن، استعلن الله ثالوثًا آبًا وابنًا وروحًا قدّوسًا. الله ظهر بالصّوت والرّوح بهيئة حمامة والابن متجسِّدًا إنسانًا واقفًا في الماء أمام المعمدان طالبًا إليه: ”اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ“ (متّى 3: 15).
من كان يصدِّق أنّ الله ظهر إنسانًا على الأرض وعاش بيننا ومعنا، وصار مثلنا خاضعًا لآلام البَشَرَة وتجارب النّفس وقابلًا لموت الجسد؟!… هذا أمر لا يُصدَّق! كيف يُعقَل أنّ الخالق يصير منظورًا ومحسوسًا ومحدودًا مثلنا، ويأتي إلى عبده ومرسَله ليطلب إليه أن يعمِّده معمودية التّوبة؟!… هذا هو التّواضع الأقصـى بالحبّ الَّذي يتعهَّد خطيئة المحبوب ويحملها على عاتقه. المسيح هو النّموذج (Type) بالنّسبة لنا في كلّ وجودنا. هو لم يأتِ ليُظهر لنا الطّريق إلى الحياة وحسب بل كشف عن نفسه أنّه هو ”الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ“ (يوحنا 14: 6) هو الَّذي يوصلنا إلى الآب، ولا أحد غيره، بروحه القدّوس…
* * *
لقد استعلن الله ثالوثًا في معموديّة الرَّبّ يسوع، واستعلن إنسانًا مشارِكًا لنا حياتنا لكي نشاركه حياته. لم يأت الرَّبّ ليهبنا شيئًا آخر غير ذاته. بالابن نعرف الآب وبالآب نعرف الابن (”ليس أحد يعرف الإبن إلّا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلّا الإبن“ (متى11: 27، لو10: 22، يو1: 18، 6: 46، 10: 15)؛ وأيضًا ”لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“ (يو 14: 6)) وفي الرّوح القدس نعرف الابن (”مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ (…) أَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ“ (يو 16: 13 و14)). هكذا بنعمة الرّوح القدس نتَّحد بالابن الّذي يكشف لنا الآب. الثّالوث ظهر لنا في معموديّة الرَّبّ يسوع المسيح لكي يهبنا ذاته في الابن بنعمة الرّوح القدس. هذه غاية كشف سرّ الله أن يعطينا معرفته في القلب أي عبر الوَحدة معه بواسطة الاتّحاد به من خلال الابن أي بواسطة الكنيسة جسده في عطيّة الرّوح القدس. هذه المعرفة ليست مسألة عقليَّة ولا تخضع للمنطق العلميّ والقياسات البشريَّة، مع أنها خبرة في الجسد والرّوح معًا، لأنّ الإنسان كيان واحدٌ مخلوق على صورة الله. بطبيعته، خُلق الإنسان ليكون مسكنًا لله، وما لم يتحقَّق فيه هذا الأمر فهو يبقى متغرِّبًا عن حقيقة وجوده ويخسـر سرّ إنسانيّته، لأنّ إنسانيَّتنا تتحقَّق بتشبّهنا بالمسيح أي بتألُّهنا بواسطة الرّوح القدس في جسد المسيح…
* * *
بعد أن كشف لنا الرَّبّ يسوع في ذاته ماهيّتنا، وإذا كنّا نؤمن به ”ربًّا وإلهًا“ (يو 20: 28)، فلا يحقُّ لنا فيما بعد كأبناء لله إلّا أن نكره الخطيئة وكلّ ما يُبعدنا عن الختن الإلهيّ، إذ هو سكن فينا بالنّعمة في القلب جاعلًا إيَّاه عرشًا للثّالوث القدُّوس ”المتساوي في الجوهر وغير المنفصل. فالآب والابن والرّوح القدس لا ينفصلون ولا ينقسمون عن بعضهم البعض بل هم واحد في الجوهر مع تمايز أقانيمهم (أشخاصهم). الله واحد. وهذه الوحدة حقيقة مطلقة لا تقبل انقسامًا أو انفصالًا. ولذلك مع أنّ كلًا من الأقانيم الثّلاثة هو إله حقّ إلّا أنّه بسبب وحدة الجوهر الّتي ينتج عنها: وحدة الطّبيعة وحدة الصّفات وحدة الإرادة، وحدة الأعمال، فالأقانيم الثّلاثة معًا هم إله واحد بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. إنّ ما يوضح ببرهان لا لَبْسَ فيه وحدانيّة جوهر الأقانيم الثّلاثة، هو الإعلان الإلهيّ لوحدة قوى ومواهب وأعمال هذا الجوهر الواحد، وهو ما يعبِّر عنه الرّسول بولس بقوله: ”فأنواع مواهب موجودة ولكنّ الرّوح (أي الرّوح القدس) واحد وأنواع خدم موجودة ولكن الرَّبّ واحد (أي الابن المتجسِّد) وأنواع أعمال موجودة ولكنّ الله واحد (أي الآب) الّذي يعمل الكلّ في الكلّ“ (1 كو 12: 4 – 6).
* * *
أيُّها الأحبّاء، من عرف الله حقيقةً أحبَّه وأسلمه حياته واتّكل عليه ورفض الشّـرّ والخطيئة وسلك بالطّاعة للوصيّة الإلهيّة الّتي تحرّره من ربقة الأهواء وعبوديّتها وتطلقه في رحاب سرّ الحياة الإلهيّة بنعمة الرّوح القدس في خبرة عيش الحبّ الإلهيّ بالمسامحة والاتّضاع والوداعة والخدمة والبذل وقبول الآخَر باللّطف وطول الأناة في الرّجاء بالصّلاة. إذا لم يكن الإنسان تائبًا فهو يضع حاجزًا أمام نعمة الله لتفعل فيه، لأنّه يغلق قلبه عن طاعة المحبّة الّتي لله بالخضوع الكامل للوصيّة الإلهيّة. الرَّبّ يسوع غسلنا بمعموديّته من خطايانا مقدِّمًا عنَّا توبة بقبوله أن يغتسل بيد العبد، محنيًا هامته ليكسر كلّ تشامخ إبليس الفاعل في الإنسان والمقسِّم للبشـر والمدمّر للخليقة، فيواضع الطّبيعة البشريّة بتنازله غير الموصوف ولا المدرك منحدرًا بحبّه غير المحدود إلى أقاصي جحيميّتها ليحرِّرها من قيود المعاند الّذي يقودها بشهوات الجسد والتّملُّك وحبِّ التَّعظُّم والمديح إلى هاوية أبديَّة. هكذا علّمنا الرّبّ أنّ المحبّة الّتي يهبنا إيّاها بنعمته هي محبّة تتعهَّد الآخَر بكلّ ما فيه لتحمله وترافقه في مسيرته إلى أغواره العميقة محرِّرة إيّاه بهذا الاتّحاد السّرّي الّذي بنعمة الله، وبنعمته فقط، من أسر الموت الأبديّ لإنسانيّته بعبوديّته لأوهام الشّياطين الكاذبة بالسّعادة.
نور الحقّ ظهر ولا مكان للظّلمة فيما بعد لمن يؤمن بالمسيح يسوع المخلِّص…
ومن له اذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما