Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (1) بعد الفصح (توما الرَّسول)- العدد 17

27 نيسان 2025

كلمة الرّاعي 

إنْ لم أعايِن… لا أؤمِن

نحنُ في أزمِنَة كَثُرَ فيها العلم وقَلَّ فيها الإيمان، تَطوَّرَتْ فيها التِّكنولوجيا بشكلٍ كَبيرٍ جدًّا وسريع وتقهقرت فيها الخبرة الرُّوحِيَّة بشكلٍ دراماتيكيّ، فاضَتْ القَوانين بِحُقوقِ الإنسان وغابَتْ فيها حقيقة الإنسان والإنسانِيَّة… إنَّه عالَمُ الكَذِب المُقَنَّع بشبْهِ الحقيقة، إنَّه عالَمُ المسيح الدَّجّال…

البشر يظنّون أنَّ لهم في المنظور والملموس حقيقة (truth)، لكنَّ هذا “باطِلُ الأباطيل”، لأنَّ الحقيقة تُكتَشَف مِنْ خِلال الحَقّ (Righteousness) وليس العكس، ففي العالم حقائِق كثيرة يُبنى عليها العالم ولكنّها باطلة، كما أنّه يوجد حقائق باطلة في نظر العالم وهي من الحقّ. مثلًا، في منظار حقوق الإنسان في الدُّوَل الغَرْبيّة، بعامّة، نرى أنّ المثليَّة الجنسيّة هي حقيقة إنسانيّة وحَقّ، لكن هذا من مِنظار حقيقة الإنسان الأنطولوجيّة المسيحيّة هو “باطل الأباطيل”، وهو تزييف للحقيقة والحقّ. أيضًا، بحسب مجتمع استهلاك والفلسفة الوجوديّة الرَّائِجَة أنَّ الإنسان فردٌ (Individual) وحرِّيَّته مُطلَقة وله الحَقّ بأنْ يختار ويعمل ما يرغب فيه ضمن إطار حرِّيَّته الشَّخصيَّة ولا يَحقُّ لأحد الاعتراض عليه، بينما تَعْتَبِر الأنثروبولوجيا المسيحيّة الإنسان شخصًا (person) أي هو فرد في تواصل وارتباط مع آخَرين، وتاليًا ليس مُسْتَقِلًّا بشكلٍ مطلَق لأنّه مرتبط مع آخَرين في شركةٍ ووَحدةٍ، بدون امتزاج أو اختلاط أو انقسام أو انفصال، بشَكْلٍ سِرِّيّ (mystical and sacramental) في شركة جسد المسيح وروحه القدُّوس. غير المؤمن يرى العالم مِنْ خلال عَيْنَيْ جسدِهِ أمّا المؤمن فيراه ويرى فيه الأبديَّة بِعَيْنَيْ ذهنه!…

*             *             *

القيامة بالنِّسبة للمادِّيّين مِنَ النَّاس وَهْمٌ، وللرُّوحِيِّين حقيقة يقينيَّة ملموسة بالخبرة في روح الله وواقعٍ مَوْثوقٍ بحقيقته في جسد المسيح. خبرات الآباء القدِّيسين في مُعايَنة الله لا تُعَدّ ولا تُحْصى، وتذَوُّق سرّ الحياة الأبديَّة حقيقة مُعاشَة ومُختَبَرَة. في هذا الإطار يقول القدِّيس صفروني الآثوسيّ: “عندما يخلو القلب من أدران الأنا ويكون ممنوحًا للسُّكون الحقيقيّ، يظهر له ذلك النُّور الَّذي لا يُشبه أيّ نور مخلوق، بل هو نور الله المتَجَلّي”. فبالنِّسبة له، “لا يُقارَن نور الله بذلك الَّذي نلتمسّه في الطَّبيعة؛ إنَّه نورٌ مُتعاليٌ يتخطّى حدود الإدراك الحِسّيّ، وهو الَّذي يُمكِّن الرُّوح مِنْ لِقاء الحقيقة في أسمى صورها”. الطَّريق لمعاينة الله في نوره السَّرْمَديّ غير المخلوق “يكمُن في صَفاء القلب وفي إيجاد السُّكون الدَّاخليّ، حيث يصبح المؤمِن شاهِدًا حَيًّا لِتَجَلّي الله في نورٍ لا يَمَسَّهُ شؤم الدُّنيا”. بحسب قدّيسنا، طبعًا، هذا يتطلَّب جهدًا روحيًّا حقيقيًّا؛ إذْ يجب على النَّفْس التَّحرُّر من الرَّغبات الدُّنيويَّة والتَّوجُّه إلى الصَّلاة والتَّأمُّل بكلِّ خشوعٍ لأجل تطهير القلب والرُّوح عبر النُّسْك، حتّى يصير الإنسان قادرًا على “رؤية ما لا تَراه العين” واختبار حقيقة النُّور الَّذي لا يُمكن اختزاله بكلماتٍ أو صُوَرٍ دنيويَّة…

*             *             *

أيُّها الأحِبَّاء، أعطى توما بِشَكِّهِ، لإخوته الرُّسُل ولنا، يَقين قيامة الرَّبِّ بالجسد وكَشف لنا الرَّبُّ من خلاله حقيقة هذا الجسد الممجَّد والمُرَوْحَن وغير الخاضِع، بعد أنْ قامَ مِنْ بينِ الأموات، لِنوامِيس هذا العالم. القيامة أعطَتْ المعنى النِّهائيّ لوُجودِنا وهو أنْ نَصيرَ مثل الله أي أنْ نَتَألَّه. ابن الله وكلمته تجسَّد ليؤلّهنا، وهذا تحقَّق بقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب. في الإنسان يسوع المسيح تحقَّقتْ الخليقة الجديدة الخالِدَة، الخلود صار حقيقة والموت إلى زوال…

نعم، يا أحِبَّة، نحن مدعوُّون إلى الحياةِ الأبديَّة وإلى القداسة. القداسة دعوة كلِّ إنسانٍ، وهي تشبُّه بالله وبكماله. نحن نصير كاملين بنعمة الله والكمال الَّذي نحن مدعوُّون إليه لا نِهايَةَ له لأنَّ الله غير مَحدُود، وتشبّهنا به نمُوٌّ لا نهائيّ في قداسته أي في شركة حبّه وفرحه وسلامه. طريقنا إلى القيامة لا بُدَّ أنْ يعبر بموتنا عن منطق العالم وحياة العالم لِنَحْيا في المسيح حياةً جديدةً إذْ نتغيَّر عن أذهاننا وأفكارنا وأعمالنا ونتحرَّر بجهاد النُّسْكِ مع النِّعْمَة في الصَّلاة والصَّوْم ونسلك في شِرْكَةِ الحُبِّ في المسيح حين نَتَخَلّى عن كلّ ما لنا لِنَقْتَني كلّ ما هو ليسوع المسيح الَّذي فيه يَصيرُ الآخر حياتنا…

هكذا يقوم المسيح فينا ونقوم نحن فيه إلى صورته ومثاله…

المسيح قام! حقًّا قام!

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة