نشرة كنيستي- أحد مرفع اللَّحم (الدّينونة)- العدد 9
27 شباط 2022
كلمة الرَّاعي
أَحَدُ الدَّيْنُونَة
”تعالوا يا مبارَكي أبي، رِثوا المُلْكَ المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم …
اِذهبوا عني يا ملاعينُ إلى النار الأبدَّية المُعدَّةِ لإبليسَ وملائكتِه“ (متّى ٢٥)
هل من دينونة في اليوم الأخير؟ هل سيحاسب الله البشر في نهاية الأزمنة؟ هل المسيح الَّذي مات من أجل حياة العالم سيَدين البشريّة في مجيئه الثّاني في القيامة العامّة؟ …
الواضح من الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متّى أنّ الدّينونة حاصلة لا محالة. في الحقيقة، هذا ما نعلنه في دستور الإيمان بأنَّ المسيح ”أيضًا يأتي بمجدٍ ليدين الأحياء والأموات“. السّؤال الجوهريّ هو: على ماذا سيديننا الرّبّ ويحاسبنا؟ على الرّحمة والمحبّة.
هل هذا يعني أنّ الصَّلاة والصَّوم غير مهمَّين في حياتنا؟
بالطّبع لا، فالصَّلاة والصَّوم أمران رئيسيّان في جهاد الإنسان لاقتناء المحبّة الإلهيّة. الإنسان بالفطرة، بالطّبيعة عنده المحبّة والرّحمة، لكنّهما محدودتان بسبب الخطيئة الّتي تجعله يتمسَّك بنفسه، وربّما فقط بنفسه. مع ذلك، يتعلّم الإنسان في بيته وفي مجتمعه أن يحبّ ولو كانت هذه المحبّة مربوطة بالعطاء والأخذ بالمقابل، هذا تدريب أوَّليّ ليصير عند الإنسان إحساس بالآخَر وبحاجاته. مع النّمو ووعي الإنسان لذاته ولِكَوْن حياته لا تستقيم بدون الشّركة مع الآخَر ومع نضج شخصيّته يدرك يومًا بعد يوم أنّ جوهر العلاقة الحقيقيّة بين البشر هو المحبّة، الَّتي تعطي لهذه العلاقة بُعْدَها الإنسانيّ العميق والحقيقيّ. تنشأ الرَّحمة من رباط الرَّحَم بين النّاس الَّذي يجعلهم يَحُنُّونَ على بعضهم البعض ويرأفون بالضُّعفاء، من هنا يبتدِئ الإنسان بتعلّم الرَّحمة. الرَّحمة ترتبط بالضّعف عند الآخَر، من هنا، في هذا الأحد المبارك أحد الدّينونة، أتت دينونة الرّبّ على أعمال الرَّحمة الّتي قام بها النّاس أو لم يقوموا بها تجاه الضّعفاء: الجياع والعطشى والغرباء والعُراة والمرضى والمحبوسين. هؤلاء الَّذين ذكرهم الرَّبّ يسوع في المثل يمثّلون المهمَّشين والمتروكين والمتألّمين وربّما المنبوذين، هؤلاء لا يخاطِر البشـر، بعامّة، بالتّعاطي معهم وفي شؤونهم لأنّهم سيشكّلون عليهم عبئًا مادِّيًّا ومعنويًّا قد يكون طويل الأمد، فمن يستطيع تحمُّل إنسان يحتاج إليه كلِّيًّا لفترة طويلة؟! … على سبيل المِثال لا الحصر، الأولاد أحيانًا كثيرة لا يحتملون وَهَنَ صحَّة أهلهم بسبب الشّيخوخة والعجز فيُهْمِلُونَ الاهتمام بهم، ألا يحصل هذا في أيّامنا؟ …
بالرَّحمة نرتقي إلى المحبّة، لأنّ دوافع الرَّحمة تكون أكثر تأثيرًا في ضمير الإنسان. لذلك، من لا يتحرَّك ضميره، وبالتّالي قلبه، لآلام النّاس فلن يتحرَّك قلبه ليفرح بالنّاس. ولكن، الرَّحمة هي صفة الله: ”كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ“ (لوقا ٦: ٣٦) والمحبّة أيضًا: ”اللهَ مَحَبَّةٌ“ (١ يوحنَّا ٤ : ٨ و١٦). بناء عليه، لا يقتني الإنسان الرَّحمة والمحبّة الإلهيّتين إلّا بنعمة الرُّوح القدس، ولا يقتني الرُّوح القدس إلّا من آمن بالمسيح واعتمد على اسم الثّالوث القدّوس، ولا يستقرُّ الرُّوح القدس إلّا في الأنقياء، ولا يتنقّى أحد بدون التّوبة، ولا يستطيع أحد أن يتوب بدون الصّلاة والصّوم. هناك من يتعاطَون الرَّحمة بالفطرة الطّبيعيّة الّتي هي من صورة الله، ولو المشوّهة بفعل السّقوط فيهم ولكنّ رحمة الله تجعله يرحم هؤلاء في اليوم الأخير. لا يستطيع الإنسان أن ينتقل من الرَّحمة العاطفيّة المزاجيَّة إلى الرَّحمة الرّوحيّة الثّابتة إذا لم يُدرك رحمة الله عليه أي إذا لم يعرف خطاياه وحجمها الحقيقيّ وامتدادها الكيانيّ فيه ليفهم عظم رحمة الله له ومحبّته إيّاه. وبالتّالي، فالنّموّ الحقّانيّ للإنسان في إنسانيّته مرتبط بإدراكه، بنور النّعمة الإلهيّة، لحقيقة سقوطه ولحقيقة صورة الله فيه، وبالتّالي لحقيقة إنسانيّته في مشـروع الله.
الله الكلّيّ الحنان والرّأفة والرّحمة، المحبّة اللّامتناهية، خلقنا على صورته لنصير على مثاله. حياتنا هي هذه المسيرة من الصّورة إلى المثال، كلّما صرنا رحماء كلّما اقتربنا من شبه الله، وكلّما اقتربنا من شبه الله كلّما انتقلنا من الرَّحمة إلى المحبّة الإلهيّة وشركة حياة الثّالوث القدّوس.
الدّينونة هي كشفٌ إلهيٌّ، هي معاينةُ الإنسانِ لحقيقتِه الدّاخليّة في نور وجه الله بيسوع المسيح بالرُّوح القدس. حينها إمّا يكون الإنسان قد اقتنى رحمةً ومحبّةً من عند الله فيدخل إلى الملكوت المُعَدِّ له منذ إنشاء العالم، وإمّا يكون الإنسان مكتفيًا بنفسه منغلقًا على ذاته فيصير شريكًا لإبليس في جحيم كراهيّته وأنانيّته وكبريائه.
ومن له أذنان للسّمع فليسمع.
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما