Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (3) بعد الفصح (المُخلَّع)- العدد 19

11 أيّار 2025

كلمة الرّاعي 

أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟

هذا هو سؤال الرَّبّ يسوع المسيح الدَّائم للإنسان. هذا هو السُّؤال الَّذي يجب أن يوجِّهَهُ الإنسان إلى ذاته. هذا هو السُّؤال الَّذي نُوَجِّهَه إلى عالمنا اليوم والإنسان المُعاصِر.

الحياة الرُّوحيَّة، أي الحياة بمُقتَضى وَصِيَّةِ المسيح بنعمة الرُّوح القُدس ليست تحصيلًا حاصلًا عند ”المؤمِن“. الحياة الرُّوحيَّة هي صليب طاعة الوَصِيَّة الإنجيليَّة بقوَّةِ المسيح. إنَّها صدقٌ مع النَّفْسِ بإزاءِ الحَقِّ الإلهيّ. هي إجابَة صَريحَة على سؤال الرَّبّ يسوع: ”أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟“ (إنجيل يوحنّا 21: 15). مَنْ يكونُ شَفَّافًا مع نفسه بالإجابة على هذا السُّؤال الأخير هو الَّذي يطلب البَرْءَ والشِّفاء مِنْ قيودِ نفسه وقلبه وذهنه وجسده والعالم.

*             *             *

عَدُوُّ الإنسان الأوّل ذاته. وقَيْدُ الإنسان الجوهريّ هو أنانيّته. يريد كلّ شيء بحسب مشيئته ونظرته هو. لا يقبل أن يسمع ما للآخَرين مِنْ رأي. إذا خالفْتَهُ رفَضَكَ وإذا وافقته ”أحبَّك“، بمعياره، أي اقتناكَ لنفسه بإرضائكَ له. لا يَرَى فيكَ إلَّا ما يُشبِع فيه أهواءه، وإذا لم تُعطِه مراده يَمُجُّكَ. لا يقبل أن تأخذ منه ما أو من يعتبره خاصَّتَه. لا بل لا يَقبل منك أن تتغيَّر في تَعاطيك معه لأنّه يريدك له كما هو يرغب أي مُستَهْلِكًا لوُجودِكَ وليس في تَناضُحِ المحبَّة بإخلاء الذَّات للتَّساكُن الواحد في الآخَر بنعمةِ تصوُّر المسيح فيكما …

مِنْ هنا سؤال الرَّبُّ الوُجودِيّ والكَيانيّ لنا، لكُلِّ واحدٍ مِنَّا: ”أتريد أن تَبرَأ؟“.

*             *             *

مُخلَّع بَيْتَ حَسْدَا كان له ثمانٌ وثلاثونَ سنةً مُلْقًى قرب البركة الَّتي ينزل الملاك فيها ويُحرِّك الماء فيُشفَى أوَّل مَنْ ينزل فيه. على حَدِّ قَوْلِ المخَلَّع: ”ليس لي إنسانٌ متى حُرِّك الماء يُلقِيني في البرْكة، بل بينما أكون آتِيًا ينـزل قَبْلِي آخَر“. لم يستطع هذا المخَلَّع أنْ يَرْبَحَ إنسانًا واحِدًا له مُدَّةَ ثَمانٍ وثلاثين سنةً مِنْ تواجده في نفس المكان ومِن تواجُد الكثيرين مِنَ الأشخاص نفسهم في هذا المكان في كلِّ هذه المدَّةِ مِنَ الزَّمن الَّتي قضاها مَشلوحًا هناك منتَظرًا الرَّحمة! … هذا يطرح سؤالًا كبيرًا حول حقيقة هذا المخلَّع وعلاقته بالآخَرين. ضعفه بدل أن يزيدَه تواضُعًا وتخَلِّيًا عن تمسُّكِهِ بأناه وحرارةً في إيمانه وطلبه لرحمة الله زاده، بالعكس، اِنغلاقًا على ذاتِهِ واِستكبارًا ورغبةً في اِستعبادِ الآخَرين له ممَّا أدَّى به إلى هروب الجميع منه، فلم يَعُد قادِرًا أنْ يَجِدَ إنسانًا ليَتَحَنَّنَ عليه.

*             *             *

”أتريدُ أنْ تَبْرَأ؟“… الإنسانُ المعاصِر يُرَبَّى بواسطة وسائل الإعلام والتَّواصُل والإعلانات على تَمْكِينِ الأنانيَّة، لا بَل في بيته أيضًا وفي مدرسته حيث لم يعد للتَّأديبِ مِنْ دَوْرٍ في التَّربية، ما يُؤَدِّي إلى غِيابِ مَفْهُومِ الصَّحِ والغَلَط والحَقِّ والباطِل، يَصيرُ المقياس رِضَى الإنسان نفسه بحسب أهوائه أي تَنْحَلُّ البُنْيَة المؤسَّسة على المبادئ لتُستَبدَل بتلك المبنيّة على عبودِيَّة الأنا ولذَّتها …

*             *             *

لا خلاص للبَشَرِيَّة ولا شِفاءَ ولا صِحَّةً كيانيَّةً إلَّا بالإيمان بالرَّبِّ يسوع المسيح الَّذي جدَّد الإنسان بالموت والقيامة، ومنح البشر العُتْقَ والتَّحرُّر منْ قيود الأنا ببَذْلِهِ ذاتَهُ عن كلِّ الوُجود المخْلُوق ليُعيدَ للبشريَّةِ والخليقَةِ جَمْعَاء وُجُودَها الحَقَّانيّ والأصْليّ ويُوصِلَها إلى كمالها.

لا يبرأ الإنسان ما لم يُحرِّرَهُ حبُّ المسيح. مَنْ يُحِبُّ المسيح لا يَخُونُه، كما فعل مُخَلَّع بِرْكَةِ بَيْت حَسْدا بل يكونُ أمينًا له في طاعة كَلِمَتِهِ مهما كلَّفَهُ الأمر لأنَّه يعرف أنَّ حياتَهُ قبل قبولِهِ للكلمة كانت وُجُودًا في الحِقْدِ والمرارة والحَسَد والعَجْزِ والعبودِيَّة، أمَّا بكلمة المسيح فصارَتْ حقيقةً واقِعيَّةً مُمْتَدَّةً في الأبَدِيَّةِ منذ الآن بالمسامحة والفرحِ والحُبِّ والقُوَّةِ والحُرِّيَّة …

ومن أراد أن يبرأ فليستسلم لمشيئة المسيح …

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة