نشرة كنيستي- الأحد (2) بعد العنصرة- العدد 26
26 حزيران 2022
كلمة الرَّاعي
أن نكونَ رُسُلًا للمسيح
”لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ“ (1 كورنثوس 9: 16)
الرَّسُول في الكنيسة هو من تتلمذ على الرَّبّ خلال حياته على الأرض بيننا. والرَّبّ يسوع، في الإنجيل، اختار اثني عشر شخصًا من تلاميذه وسمّاهم رسلًا، ”وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا ’رُسُلًا“ (لو 6: 13). هؤلاء عاشوا مع الرّبّ في ترحاله وكرازته، عاينوا عجائبه، رأوه في مجده الإلهيّ وفي تواضعه الأقصى على الصّليب، ولمسوه حيًّا قائمًا من بين الأموات، وتعلّموا منه بعد قيامته لأربعين يومًا، ونظروه صاعدًا إلى السّماوات وتقبّلوا منه الرُّوح القدس وسلطان الحلّ والرّبط في السّماء وعلى الأرض.
”اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ …“ (1 يوحنا 1: 1)، خبرة هؤلاء الرُّسُل أُعطيت لنا بهم ومن خلال الكنيسة على مرّ القرون، لذلك، فإيماننا مبنيّ على شهادة الشّهود أي الرُّسل الَّذين تحمّلوا الضّيقات والاضطهاد والقتل … (راجع: 2 كورنثوس 6: 4—10) ليحافظوا على استقامة الشّهادة للإيمان بالرّبّ القائم من بين الأموات. لذلك، إيماننا محفوظ في الأمانة والحقّ لأنّ ثمنه دماء الرُّسُل والشّهداء …
من هنا، رسالة الكنيسة هي أن تكون رسوليّة أي أن تحافظ على ”الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ“ (يهوذا 1: 3)، إذ هي مبنيّة على أساس هذا الإيمان، والكنيسة رسوليّة إذ يُطلب منها دوام الكرازة بالإنجيل إلى أن لا يبقى أحدٌ غير مبشَّرٍ…
* * *
اليوم، نحن مدعوّون لنكون رسلًا للمسيح. المسيح أُرسل من الله الآب (راجع مثلًا: يوحنّا 5: 30، 36، 37، 39 …)، وهو أرسل تلاميذه إلى العالم (راجع: يو 20: 21)، وهو يرسلنا اليوم بالرُّوح القدس لنكون له شهودًا إلى أقصى المسكونة (راجع: أعمال 1: 8).
الرُّسُل بشّروا اليهود أوَّلًا ومن ثمّ الأمم، وهذا مطلوب منّا اليوم أيضًا أي أنّ البشارة يجب أن تصل كلّ إنسان، ليعرف العالم خلاص الله وحبّه لخليقته بيسوع المسيح.
المسؤوليّة البشاريّة مُلقاة على عاتق كلّ مسيحيّ مؤمن، ”لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“ (يو 3: 16). إذا كان الله قد بذل ابنه الوحيد لأجل حياة العالم، تصير مسؤوليّتنا كمؤمنين بابن الله المتجسِّد أن نكرز به لكي يعرفه العالم لئلّا يهلك النّاس بخطاياهم.
كيف نُعَرِّفُ النّاس على ابن الله المتجسِّد والمخلِّص؟ حين تتجسَّد فينا كلمته ووصيّته الجديدة: ”بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ“ (يو 13: 35).
المحبَّة المسيحيّة هي محبّة إلهيّة أي أيقونة لسرّ الثّالوث القدّوس، ولذلك هي عطيّة النّعمة الإلهيّة حين يقبل الإنسان أن يفرغ ذاته أي أن يصير الأنا هو الأنت الإلهيّ بيسوع المسيح في الرُّوح القدس… لا نستطيع أن نعيش هذه المحبَّة ونقتنيها ما لم نختبرها في سرّ الشّركة في سرّ الإفخارستيَّا حيث بالمسيح نصير واحدًا مع الله وفيما بيننا في خبرة سُكنى روح الله فينا وانسكابه علينا…
* * *
من نبع النّعمة وفرح خبرة القيامة وسلام ملكوت الله تأتي قوّة الكرازة عند المؤمن. أن نبشِّر بالمسيح القائم من بين الأموات هو خبرة شخصيّة وجماعيّة، والشَّخص الَّذي ليس لديه هذه الخبرة والجماعة الّتي لا تعرف هذا السّرّ (mystery) لا يمكنهما بأي حال من الأحوال أن يكرزا ويبشِّرا بتحقيق الغلبة إن لم يشتركا فيها أصلًا. من هنا يأتي ضعف الشَّهادة في الكنيسة لأنَّنا ابتعدنا عن ”المحبّة الأولى“ (راجع رؤ 2: 4).
التّلمذة هي الجواب على ضعف كرازتنا وبشارتنا وشهادتنا… إن لم ترجع الكنيسة إلى خبرة التّلمذة أي التّعليم بالمرافقة والعيش المشترك لتعلُّم الإيمان واختباره بالتّناضح بين المُختَبَر والمُتَتَلْمِذ ستتحوّل البشارة إلى كلام علميّ أو أدبيّ أو حِكَمِيّ أو تاريخيّ أو وهميّ… إن لم ينوجد قدِّيسين معنا فلن نتعلّم القداسة، وإن لم نجد من خَبِرَ حياة النّعمة فلن نذوقها، وإن لم نعاشِر تائبين فلن نتدرَّب على التّوبة، وإن لم نعاين مُصلِّين فلن ننجذب إلى الصَّلاة…
هذا لا يعني أنّ الله غير قادر أن يهب الإنسان هذه كلّها إن كان يجاهد وحده ولم يجد من يتعلَّم منه، الرّبّ يصنع ما يشاء ويهب ما يريد لمن يرغب، ولكنّ القاعدة العامّة الّتي علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع والرّسل من بعده كانت قدوة المعلّم أمام التّلميذ، ”هَلُمَّا ورائي فأجعلَكما صيَّادَي النّاس“ (متّى 4: 19)، ”تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ“ (مت 11: 29)، ”فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ“ (يو 13: 14) و”كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ“ (1 كو 11: 1).
اليوم، العالم بحاجة إلى المسيح ليخرج من دوامة الموت الرُّوحي الَّذي يعيش فيه، ومن عبثيَّة الحياة البشريّة في ظلِّ سيطرة روح الاستهلاك والفردانيَّة والحرِّيّة الكاذبة المنحرفة. فالمسيح وضع الكنيسة في العالم لتكون أيقونة سرّ اتِّحادِه مع البشر واِتّْحَادِهِم بعضهم ببعض بواسطته، لتكشف حياة الدّهر الآتي بنور قبس الألوهة السَّرمديَّة في المؤمنين الأتقياء والقدِّيسين الحالِّ والفاعِل فيهم بنعمة الرُّوح القدس.
ليشعل الله في قلوبنا نار حبّه لتأكل أشواك أهوائنا وأنانيّتنا وكبريائنا فنتنقّى ونصير مصابيح تحمل نور الكلمة لأجل خلاص العالم…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما