نشرة كنيستي- الأحد (21) بعد العنصرة- العدد 46
14 تشرين الثّاني 2021
كلمة الرّاعي
أن نصوم لِنَحيا
ماهيّة الصّوم
يصوم الإنسان عن نفسه ليتحرَّر من تمحوره حول ذاته ويتخطَّى محدوديّة الحاجة الَّتي يعيش فيها ليتفرَّغ لملاقاة الله. الصَّوْم ليس انقطاعًا عن الطّعام لفترة من الزَّمن أو عن أنواع من الأكل بل هو مسيرة عشق يتكرَّس فيها الإنسان في طلب المعشوق الإلهيّ.
تـــــــــحــــــضّـــــــــرنــــا الكـــنيسة، دومًا، للأحـــــــداث الخـــــــــلاصيّة بالأصوام لكي تنقلنا بالانقطاع عن العالم إلى عيشه كعبور وفصح نحو الأبديّة. إذ دخل الرّبّ تاريخنا صار التّاريخ مسيرة نحو الدّهر الآتي الَّذي نلجه بالمسيح ”الباب“ (يو 10: 9).
ليس الصّوم، إذًا، غاية بحدّ ذاته بل هو عربون محبّة لله وتاليًا خدمة بذل وعطاء للقريب. ليس المطلوب أن نقدِّم أمورًا وأشياء بل أن نقدَّم حياتنا ”ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ“ (رو 12: 1).
* * *
زمان تَحَدّي الصّيام بشكله الحاليّ
نستدلّ من رسالة تعود إلى القرن الثّاني عشــر للبطريرك الأنطاكيّ ثيودوروس بلسامون القانونيّ الكبير في ذلك الزّمان، أنّ الصّيام كانت مدّته سبعة أيّام قبل عيد الميلاد، إذ يستعمل في وصفه تعبير السُّباعِيّ الأيّام “Heptaemeros-Ἑπταήμερος”. أمّا أوّل إشارة واضحة لصوم الميلاد مدّة أربعين يومًا فتعود إلى القرار الصّادر عن مجمع القسطنطينيّة المُقدّس المنعقد عام 1166 م. حيث يحدِّد مدّة الصّوم بـ “أربعين يومًا” تحضيرًا لعيد الميلاد. يفسّر القدّيس سمعان التّسالونيكيّ (1381– 1429 م.) غاية هذا الصّوم قائلًا: ”إنّ موسى بعدما صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، تلقّى الوصايا الإلهيّة مكتوبة على لوحَين من حجر. أمّا نحن، فبِصَوْمنا أربعين يومًا سنتلقّى “كلمة الله الحيّة” غير المكتوبة على ألواح حجريّة، بل المتجسّدة والمولودة من مريم العذراء، وسنتشارك جسده الإلهيّ“.
يبتدئ صوم الميلاد في 15 تشرين الثّاني ويستمرّ إلى بعد قدّاس عيد الميلاد في 25 كانون الأوّل. نصوم عن تناول الزَّفرَين أي اللّحوم والمنتجات الحيوانيّة. يُسمح بتناول السّمك وثمار البحر كلّ ايّام الأسبوع ما عدا يومي الأربعاء والجمعة. يُعمل بهذا النّظام حتّى عيد القدّيس سبيريدون العجائبيّ في 12 كانون الأوّل. ومن 12 كانون الأوّل الى 24 كانون الأوّل ضمنًا، نصوم عن اللّحوم والألبان والأجبان والبيض والسّمك. في يوم بارامون عيد الميلاد (24 كانون الأوّل) نصوم صومًا انقطاعيًا عن كلّ مأكل ومشرب إلى حين موعد القدّاس الإلهيّ المُقام في هذا اليوم، وبعد المناولة الإلهيّة نتناول طعامًا صياميًّا.
* * *
لا حياة في الله بدون صوم
طالما يظنّ الإنسان أنّ حياته مستمرّة وقائمة بسبب المأكل والمشرب والمُقتَنى فهو ما زال جاهلًا لمعنى حياته. الصّوم هو فرصة ليتعلّم الإنسان أنّه ليس ما يأكل وما يقتني بل أنّ لوجوده بُعدًا جوهريًّا هو أساس ومعنى حياته وهو البُعد الأُخرويّ (eschatologique). يُلامس الإنسان هذا البُعد من كيانه عبر الصّوم الَّذي يُدخله في خبرة الموت الطّوعيّ عن العالم عبر الانقطاع الإراديّ عن مصادر حياته أي حاجاته البيولوجيّة. هذه الخبرة ضروريّة لكلّ إنسان ليُدرك أنّه أبعدُ من جسد وأكثر من مادّة، وليدخُل عبر هذه الخبرة في طلب الوجود الحقيقيّ أي مصدر الوجود: الله.
هكذا، خبرة الجوع الجسديّ تُفتِّق في القلب جوعَه إلى الله لأنّه يُدرك أنّ الفرح والسّلام والرّاحة لا تتأتّى إلّا من هذا الحضور الإلهيّ غير المخلوق للنّعمة حين يبحث الإنسان عن المعطي ولا يتلهَّى بالعطيَّة. هذه خبرة الكنيسة الّتي عاشها القدّيسون. في هذا الإطار يقول القدّيس سلوان الآثوسيّ: ”تتوقُ روحي إلى الله، ولا شيء على الأرض يمكن أن يفرِّحني، ولا يمكن لروحي أن ترتاح في أيّ شيء، بل تتوقُ مرَّةً أُخرى لرؤية الرّبّ لكي يَسُدَّ جوعَها“.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، هوذا زمن مبارك هوذا زمن فرح. كلّما اقترب زمان العرس كلّما ابتهجت العروس وتشوَّقت للقاء ختنها. إنّ صومنا، بهذا المعنى، هو عمل مفرح رغم تعبه وجهده لأنّ غايته اللُّقيا مع الحبيب والاتّحاد به. هكذا، الصّوم للجسد متعب أمّا للرّوح فمنعش، وكلّما ازداد تعبه كلّما ازداد فرحه إذ تتحضَّـر النّفس لاستقبال عريسها بأبهى حلَّة. وكلّما اقترب موعد العرس كلّما ازداد الشّوق ولم يعد أمام النّفس هدف سوى أن ترى عريسها.
فليكن هذا الصّيام لنا زمن تجدِّد ”لمحبّتنا الأولى“ (راجع رؤ 2: 4). فَلْنَدْخُلْهُ بكلّ همّة ونشاط في الرّوح مُكَثِّفِينَ صلواتنا وقراءاتنا للكلمة الإلهيّة وآباء الكنيسة، مستبدلين جوعًا بجوع وعشقًا بعشق لنطلب المسيح في كلّ حين وفي كلّ إنسان وفي كلّ خدمة. فلنُشْبِعْ يسوع فينا بابتعادنا عن ما لنا منّا وفينا لنطلب ما له منه وفينا، فنمتدَّ نحوه في الآخَر معبِّرين له عن حبّنا وشوقنا بعطاء الذّات باحتضان المتألّم بالتعزية ومشاركة المحتاج بالخيرات. هكذا نكون قد دخلنا في سرّ الأبديّة أي في سرّ الشركة الإلهيّة بالمحبّة التّجسُّديّة…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما