نشرة كنيستي- الأحد (12) من لوقا (العشرة البرص)- العدد 3
16 كانون الثّاني 2022
كلمة الرَّاعي
أنطونيوس الكبير ”كوكب البرّيّة“
ومُنير المَسكونة
”يا بنيَّ لا تهملْ ذكرَ الأبديّة؛ قلْ لنفسِك في كلِّ صباحٍ أنَّك ربَّما لا تعيشُ الى المساء، وعند المساءِ أنَّك ربَّما لا ترى نور النَّهار. قاوِمِ التَّجربةَ بشجاعةٍ، إنَّ الشَّيطانَ ضعيفٌ أمامَ الصَّومِ والصَّلاةِ وإشارةِ الصَّليب“.
هذا التّعليم للقدّيس أنطونيوس الكبير يُرينا ببساطة طريق الغلبة على التّجارب ودرب القداسة!… الحياة الرّوحيّة هي للشُّجعان وليست للجبناء. من لا يريد أن يقاوم ويصارع التّجارب لا يستطيع أن يحيا مع الله وله. ”فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ“ (مت 18: 7)، لا مَهْرَب من أن يعثر الإنسان وأن يواجه الضّيقات، ولكنّ التّجربة في عمقها هي حين يُصارِع الإنسان ذاته إذ يتذبذب بين الاتّكال على الله أو الاتّكال على نفسه أو الإنسان، بكلمات أخرى حين يكون عليه أن يختار بين طاعة الله وصنع مشيئته وبين طاعة أفكاره الذّاتيَّة أو مشيئات النَّاس والخضوع الدّاخليّ للظُّروف الخارجيَّة بما يشبه الاستسلام للعالم بإزاء رفض الرّبّ أو الشّعور بالاحباط أو اليأس كوننا لا نشعر به معنا وإلى جانبنا…
* * *
بالرُّغم من انتصارات قدّيسنا على التّجارب، لم يكن الشّيطان لينفكَّ عن الهجوم عليه. في بداية جهاده، انفرد في الصَّحراء ودخل قبرًا قديمًا أقام فيه أشهرًا. وما زال الشّيطان يهاجمه بِهيئةٍ حيوانيَّةٍ مُرعِبَةٍ، حتّى أنّه أخيرًا انهال عليه بالضَّرب جسديًّا حتّى صار بين حيٍّ وميت، لكنّ عزيمته لم تَلِنْ. وفي هذا العراك الهائل أشرق في ذلك القبر نورٌ سماويٌّ وظهر الرَّبُّ يسوع. فصرخ أنطونيوس: “أين كنتَ يا سيِّدي؟” فأجابه الرَّبُّ: “كنتُ هنا، يا أنطونيوس، أشاهد جهادك”.
لا ينمو الإنسان بدون تجارب. ليس أنّ الله يجرّبنا، بل الشّرير، أوَّلًا، ونحن ثانيًا حين نتجاوب معه والبشر لاحقًا. غاية الشّرّير من تجاربه أن يوقعنا في الاحباط واليأس من رحمة الله ليقضيَ علينا.
* * *
الإنسان قد يظنُّ ذاته مؤمنًا، لكن لكي يعرف حقيقته عليه أن ينظر إلى هدف حياته. لماذا هو يعيش؟ ماذا يريد أن يحقِّق؟ ما الَّذي يطلبه في هذه الدّنيا؟… إذا لم يكن الجواب مرتبطًا بسرّ الإنسان في علاقته بالله وطلبه للملكوت السَّماويّ، فالإنسان ما زال يضرب ضرب عشواء في بحثه عن معنى لحياته.
سرّ الإنسان أنّه على صورة الله، وصورة الله هو يسوع المسيح ابن الله المتجسِّد، الَّذي ”هُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ أُقْنُومِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ“ (عب 1: 3). غاية حياتنا أن نتشبَّه بيسوع عبر اقتنائنا لنعمة الرّوح القدس. جهادنا الرّوحيّ هذه غايته، لأنّ يسوع هو ملكوت الله، والكنيسة جسده هي تجلِّي هذه الحياة الأبديّة في الأسرار، لا سيّما القدّاس الإلهيّ.
ليس تحصيلًا حاصِلًا أنّنا حين نعتمد على اسم الثّالوث نصير أبناء الله ومُخَلَّصين. الحُبّ لا يصنعُ وحدةً بين المتمايزَين حين يكون من طرفٍ واحد. يوجدُ محبٌّ ويوجدُ محبوبٌ، وما لم يصر المحبوب مُحبًّا والمُحبُّ محبوبًا لا تقوم العلاقة بين المختلفَين ولا تتحقَّق وَحدة.
إنّ الجهاد الرّوحيّ، أي هذا السّعي لمعرفة النّفس من خلال طاعة الكلمة الإلهيّة هو السّبيل لمعرفة الله الّتي هي الحياة الأبديَّة (راجع يو 17: 3).
* * *
أيُّها الأحبّاء، بدون تعبٍ وكدٍّ لا يربح الإنسان فضيلة ولا يقتني نعمةً، من يطلب الرّاحة في هذا العالم يحصدُ عذابًا أبديًّا، ومن يطلب التّعب في البِرّ الَّذي هو حمل صليب طاعة وصيّة المسيح يقتني منذ الآن نعمة الرُّوح الموآزِرَة له في جهاده والمانحة له التّعزيات الّتي لا توصف والقوّة للغلبة على الشّرّير والدّخول إلى الرّاحة الأبديّة.
يقول القدّيس أنطونيوس:”يا بنيّ لا تتشبّه بالَّذين يُداومون على الرّاحة في هذا العالم، لأنّهم لا يتقدّمون أبدًا، بل تشبّه بالَّذين عاشوا تائهين في الجبال والبراري من أجل الله، لكي تأتي إليك القوّة من العُلا ويَطيب قلبُك في كلّ شيء تصنعه بحسب مشيئة الله. لا ترجع إلى ورائك في شيء من هذه الوصايا الإلهيّة، والرَّبُّ يسوع المسيح يريحُك فتُكمِّل كلَّ ما ابتدأتَ به من الأعمال الصّالحة بسلامة، لأنَّ آباءنا الكاملين ومَنْ ماثَلَهُم بهذه قد كَمُلُوا“.
من يقتدي بالقدّيسين يطيع المسيح لأنّه قد نظرَ عاقبةَ اِسلامِ الحياةِ له، ومن تبع أهل العالم في مسيرتهم يبقى تائهًا لا سندَ له ولا راحة…
ومن استطاع أن يَقْبَلْ فَلْيَقْبَلْ…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما