Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 25 كانون الأوّل 2022      

العدد 52

عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد

أعياد الأسبوع: *25: عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد، *26: عيد جامع لوالدة الإله، يوسف خطيب مريم، الشَّهيد آفثيميوس  *27: استفانوس أوّل الشّهداء ورئيس الشّمامسة، القدّيس ثاوذوروس الموسوم *28: الشّهداء العشرون ألفًا الّذين أُحرقوا في نيقوميذيّة *29: الأطفال الـ/14/ ألفًا الَّذين قتلهم هيرودوس، البارّ مركلّس *30: الشّهيدة في البارّات أنيسيّة *31: وداع عيد الميلاد، البارَّة ميلاني الَّتي من رومية.

كلمة الرّاعي

ميلاد شمس العدل

”اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ“ (إش 9: 2)

البشريّة قبل ميلاد يسوع المسيح كانت تعيش في ”أرض ظلال الموت“، وللموت ظلالٌ كثيرةٌ منها الظّلم وعتمة القلوب وأهواؤها العديدة من الأنانيّة إلى الكبرياء والتّسلّط وحبّ المال والتّــجبّر واستعمال القوّة لأجل تحقيق المصالح الشَّخصيّة على حساب المَساكين والشَّعب ... والقائمة تطول.

هل تغيّر شــيء من هـــــذا بعـــد مجـــــيء المســـــــــيح؟!...

قد يقول البعض أنّ كلّ هذه الأمور ما زالت قائمة، والنّاس تتشكّى من الظُّلم والاستكبار والفساد ... وهذا صحيح.

إذًا ماذا فعل المسيح؟ ألم يغيّر شيئًا في العالم؟ ألم تنوجد بشريّة جديدة فيه وبه؟...

*          *          *

تجسُّد ابن الله من الرُّوح القدس ومِنَ البتول مريم وميلاده منها جدَّد الطَّبيعة البشريّة وخلقها ثانيَةً فيه ومنه وبه. هذه ”الخليقة الجديدة“ (راجع غل 6: 15 و2كو 5: 17) تحقَّقت في يسوع المسيح وأُعطيَ للــــــــبـــشر أن يشتركوا فيها عبر اتّحادهم به، هذا الاتّحاد الَّذي يناله المؤمن في المعموديّة والميرون والمناولة والمشاركة في أسرار الكنيسة، هو قوّة كامنة تُفعَّل بمشيئة الإنسان وإيمانه الفاعل في الصَّلاة والصَّوْم وأعمال المحبّة. المسيح أعطانا ذاته بالرُّوح القدس وفيه، وهو قادر أن يفعل كلّ شيء بواسطتنا، إذ إنّ ”كلّ شيء مستطاع للمؤمن“ (مر 9: 23) وأيضًا فالمؤمن قادر على كلّ شيء بالمسيح الَّذي يقوّيه (راجع في 4: 13).

ميلاد المسيح حقَّق لنا كلّ شيء في ابن الله المتجسِّد، ”الخليقة الجديدة“ صارت محقَّقَة فيه ومُعطاة لمن يؤمن به ويطيعه.

*          *          *

المعرفة الحقيقيّة لله أُعطيت لنا بميلاد الرّبّ من البتول، لأنّ الإله كشف عن نفسه أنّه ”يحبّ خاصّته“ (راجع يو 1: 1 –18)، إذ ”الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا“ (يو 1: 14). معرفة حبّ الله لخليقته هي نور المعرفة الّتي أتى المسيح ليضـيء بها حياتنا وخليقته قاطبة.

المعرفة الَّتي وثُبت لنا في المسيح هي كشف سرّ الله. الله ثالوث هو، آب وابن وروح قدس ثالوث متساوٍ في الجوهر وغير منفصل.

في المسيح عرفنا أنّ الله ليس قوّة غاشمة وليس طاغية، بل هو مُحِبٌّ للبَشَـر. مَنْ هم لله يصيرون على صورته. هذا يُعطى لهم في المسيح بنعمة الرُّوح القدس. وهم في الرُّوح القدس يَحْيَون حياة قداسة بواسطة المسيح الَّذي يقّويهم.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، ”أنتم نور العالم“ (مت 5: 14). حيث يكون المسيح هناك النُّور. حيث المسيح تُباد الظُّلمة. حيث المسيح هناك العدل والرّحمة والتّحنّن والتّعزية. حيث المسيح هناك الكنيسة وحيث الكنيسة هناك المسيح وحيث الَّذين للمسيح هناك المسيح والكنيسة والخليقة الجديدة.

ليكن ميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح فرصَةً لنا لنعود إليه لكي يعود إلينا. أن يبقى العالم في الظُّلمة وأن تزيد الظّلمة في العالم هذا دليلُ بُعْدنا عن المسيح. مطلوب منّا كمسيحيّين أن نغيِّر العالم لا أن يغيِّرنا العالم. مطلوب منّا أن نكشف سرّ الله للقابعين في ظلمة قبور نفوسهم المنتنة بالأهواء. مطلوبٌ منّا أن نكون قنوات النِّعمة في العالم. مطلوبٌ منّا أن نكون شهود الحقّ وشهدائه بإزاء طغيان الفاسدين من أفراد ومؤسَّسات. مطلوبٌ منّا أن نحمل للعالم رجاءً بحياةٍ جديدةٍ على صورة الَّذي أحبَّنا و ”بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ“ (تي 2: 14).

هكذا يولد المسيح فينا ونولد فيه، هكذا نُأَوِّن حثَّ الميلاد الخلاصيّ كلّ يوم من أيّام حياتنا...

ميلاد مجيد!...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة عيد الميلاد (باللحن الرّابع)

ميلادُكَ أيُّها المسيحُ إلهنُا قد أطلعَ نورَ المعرفةِ في العالم، لأنَّ السّاجدين للكواكب به تعلَّموا من الكوكب السّجودَ لك يا شمسَ العدل، وأن يعرفوا أنّك من مشارقِ العلوِّ أتَيت، يا ربُّ، المجدُ لك.

قنداق عيد الميلاد (باللّحن الثّالث)

اليومَ البَتُول تَلِدُ الفائقَ الجوهر، والأرضُ تُقرِّبُ المغارة لِمَن هو غيرُ مُقْتَرَبٍ إليه. الملائكة مع الرُّعاة يمجِّدون، والمجوس مع الكوكب في الطّريق يَسِيرون. لأنّه قد وُلِدَ من أجلنا صبيٌّ جديدٌ، الإلهُ الّذي قبلَ الدُّهور.

الرِّسالة(غلا 4: 4-7)

 كلُّ أهل الأرض يسجُدون لكَ ويُرتِّلونَ لكَ

هلِّلوا للهِ يا جميعَ أهْل الأرْض

يا إخوةُ، لَمَّا حانَ مِلءُ الزَّمان، أرسل اللهُ ابنَه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النَّاموس، ليفتديَ الَّذينَ تحت النَّاموس، لِنَنالَ التَّبنّي. وبما أنّكم أبناءٌ أرسلَ الله روحَ ابنهِ إلى قلوبكم صارِخًا: أبَّا، أيُّها الآب. فلستَ بعدُ عبدًا بل أنتَ ابنٌ، وإذا كنتَ ابنًا فأنتَ وارِث للهِ بيسوعَ المسيح.

الإنجيل(متّى 2: 1-12)

لمّا وُلد يسوعُ في بيتَ لحمَ اليهوديّة في أيّام هيرودسَ الملك، إذا مجوسٌ قد أقبلوا من المشرق إلى أورشليم قائلين: أين المولودُ ملكُ اليهود؟ فإنَّا رأينا نجمه في المشرق فوافَيْنا لنسجد له. فلمّا سمع هيرودسُ الملكُ اضطرب هو وكلُّ أورشليم معه. وجمَعَ كلَّ رؤساء الكهنة وكتبة الشَّعبِ واستخبرهم أين يولد المسيح. فقالوا له في بيتَ لحمَ اليهوديّة، لأنّه هكذا قد كُتب بالنَّبيّ: وأنتِ يا بيتَ لحمُ أرضَ يهوذا، لستِ بصُغرى في رؤساءِ يهوذا لأنَّهُ منكِ يخرج المُدَبِّر الَّذي يرعى شعبي اسرائيل. حينئذٍ دعا هيرودسُ المَجُوسَ سِرًّا وتحقَّق منهم زمانَ النَّجم الَّذي ظهر. ثمّ أرسلهم إلى بيتَ لحمَ قائلًا: اِنطَلِقوا وابحثوا عن الصَّبيّ بتدقيق، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتيَ أنا أيضًا وأسجدَ لهُ. فلمَّا سمعوا من الملك ذهبوا، فإذا النَّجمُ الَّذي كانوا رأوه في المشرق يتقدَّمُهم حتّى جاء ووقف فوقَ الموضِع الَّذي كان فيهِ الصَّبيُّ. فلمَّا رأوا النَّجمَ فَرِحوا فَرَحًا عظيمًا جدًّا، وأتوا إلى البيت فوجدوا الصَّبيَّ مع مريمَ أمِّهِ فخرُّوا ساجدين لهُ وفتحوا كنوزَهم وقدَّموا لهُ هدايا من ذهبٍ ولُبانٍ ومُرٍّ. ثمَّ أُوحيَ اليهم في الحُلم أن لا يرجعوا إلى هيرودسَ، فانصرفوا في طريق أُخرى إلى بلادهم.

حول الإنجيل

بُشرى المجوس

تعتلن بزيارة المجوس لأورشليم بشرى ولادة الرَّبّ يسوع بالجسد الَّذي هو الملك الأخير والمسيح مُخلِّص كلّ العالم. توضح نبوءات العهد القديم، معالِمَ هذه الزّيارة ومدلولاتها، أبرزها ما ورد في المزمور المسيّاني رقم 72، الَّذي يرسم ملامح المُخَلِّص هذا، فهو الملك العادل، البارّ، الَّذي ينصر المَظلوم ويفديه، الَّذي "8يملك من البحر إلى البحر ومن النَّهر إلى أقاصي الأرض... 17ويكون اسمه إلى الدَّهر... ويتباركون به، وكلُّ الأمم يطوِّبونه". والعلامة الفارقة لحضوره تكمن في أنّ: "10ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة. ملوك شبا وسبا يقدِّمون هديّة. 11ويسجد له كلُّ الملوك، كلُّ الأمم تتعبَّد له". هكذا زيارة المجوس ورغبتهم السُّجود للملك وتقديم الهدايا، يمثّلان تحقيق نبوءة المزمور والبرهان الدَّامِغ أمام أعين اليهود على ولادة المسيح. وأمّا النَّجم فيمثّل علامة فارقة أخرى، حيث أنَّ الحديث عنه في العهد القديم ورد على لسان عرّاف غير اسرائيليّ، اسمه بلعام بن بعور (عدد 22-24)، كان قد عزم على لَعْنِ إسرائيل، لكنّ روح الله اكتنفه، فبارك عِوَضَ أنْ يلعن، قائلًا: "يبرز كوكبٌ (نجم) من يعقوب، ويقوم قضيب (أو صولجان والدَّلالة هنا إلى الملوكيّة) من اسرائيل" (عدد 24: 17). بــــشّـــــر المجوس إذًا، بتحقيق ما سبق أن تنبّأ به بلعام، بدليل إعلانهم رؤية النَّجم في المشرق. يمثّل النَّجم الأداة الَّتي استخدمها الله للفت انتباه الشُّعوب الغريبة لحدث ولادة المخلّص، أسوةً بالإعلانات المتكرِّرة الَّتي مدّ بها اليهود في الأسفار المُقدسة.

نلاحظ التَّضاد بين اندفاع المجوس وإيمانهم، وموقف اليهود الَّذين لم يُبدوا حماسةً تُذكَر تجاه خبر ولادة المخلّص، واكتفوا بمراجعة نبوءة ميخا النَّبي الَّتي تُشير أنّ المسيح يولد في بيت لحم مسقط رأس الملك داوود. الواضح أنَّهم لم يصدِّقوا بشرى المجوس، لذلك لم يكلّفوا أنفسهم عناء الذَّهاب إلى بيت لحم للتَّحقُّق مِنَ الأمر. وحده الملك، تحت وطأة الخوف على ملكه وسلطانه، أبدى نسبة من الجديّة، حيث استدعى المجوس سرًّا ليستعلم منهم عن زمان النَّجم وأرسلهم إلى بيت لحم ليتحقّقوا ويعْلِمُوه، مدّعيًّا بأنّه يرغب أن يسجد أيضًا للملك المولود. عاد النَّجم وظهر لهم بعد خروجهم من أورشليم وأرشدهم إلى موقع الصّبيّ. ما يعني أنّ تعريج المجوس على أورشليم كان مقصودًا ومدبّرًا بإرادة إلهيّة. كان بمقدور النَّجم قيادتهم مباشرةً إلى بيت لحم، دون أن يختفي ويضطرّون لدخول أورشليم، لكنّ الله أراد من خلال هذه الحادثة فضح سوء أمانة اليهود وقساوة قلوبهم واستهتارهم بالنّبوءات. كان الأحرى بهم أن يأخذوا كلام المجوس على محمل الجَدّ، وينطلقوا بأنفسهم للبحث عن الصّبيّ بنشاط، ليكون العثور عليه مصدر فرح، ودعوة للاحتفال، عوض الإضطراب الَّذي عمّ كلّ المدينة.

يوضح القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم أنّ المجوس، أو كما ندعوهم اليوم "علماء الفلك"، عجزوا بعلومهم عن تفسير حركة هذا النَّجم وضيائه. فهو يسير في كلّ الاتّجاهات، وليس باتجاه الغرب كسائر الأجرام السّماويّة، ويختفي ثمّ يعود إلى الظّهور، أمّا ضياؤه فيسطع في النَّهار ويُضاهي أشعّةَ الشَّمس بلمعانها، لذلك يخلص القدّيس إلى القَوْل بأنّه "قوّة غير منظورة ذات عقل تحوّلت إلى مظهر نجم". قادهم النَّجم إلى حيث كان الصّبيّ، فدخلوا ليجدوه بِمَعِيَّة مريم والدته، فصار المكان بمثابة هيكلٍ إلهيّ، فقاموا بواجب العبادة، إذ خَرُّوا وسجدوا له، مقدّمين له هديّةً مؤلّفةً من ثلاثة عناصر توضح هويّته ومهمّته. درجتْ العادة أن يُقدَّم الذَّهب للملوك، واللُّبان (أو البخّور) لتكريم الآلهة خلال طقوس العبادة، أمّا المُرّ (أو العطور) فهو من مُستزلمات تطييب الجسد عند الدَّفن. يوضح المجوس من خلال هذه  العناصر أنّ يسوع هو الملك الإلهيّ الآتي ليموت فداءً عن شعبه.

تبرهن زيارة المجوس أنّ لِوِلادة يسوع بُعدٌ عالميّ وفائدة تتجاوز حدود الشّعب العبرانيّ، وأنّ المَفاعيل الخَـــــــــلاصيّة النّاتجة عنها سَتَعُمّ جميع النّاس مِنْ كلِّ الأمم، الَّذين يؤمنون بالمولود، على غرار إيمان المجوس. يوضح الرَّسول بولس، في مقطع رسالة اليوم، أنَّ دافع ولادة الرَّبّ يسوع بالجسد هو "لِنَنَالَ التّبنّي"، أي لأنْ نصير أبناء الله، وارثين له. يتحقَّق هذا الأمر بحلول الرُّوح القدس في قلوبنا فنؤهَّل لمخاطبة الآب بعبارة "أبانا" على غِرار الرَّبّ يسوع، ونكتسب قواه الإلهيّة الَّتي تبُثُّ فينا حياته الدّائمة. تدعونا الكنيسة اليوم، لنقتدي بإيمان المجوس واندفاعهم، ساجدين بتوبةٍ ورهبةٍ للطِّفل المولود، الآتي ليَلِدَنا بروحه القدُّوس وِلادَةً إلهيّة.

ها قلبي لك..!!

‎"وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَنِي. رَأَيْتَنِي وَاخْتَبَرْتَ قَلْبِي مِنْ جِهَتِكَ" (إر 12: 3). إذًا المعرفة الكيانيّة بين الرَّبِّ والإنسان تكون على مستوى القلب. القلب في مفهومنا الكتابيّ هو مركز الكيان. لهذا ما في القلب هو يحكم كيان الإنسان بِرِمَّته. الله ينظر إلى أعماق القلب فيعرف الإنسان، هل قلبه له أم لأمرٍ آخر.

"الرَّبُّ وَحْدَهُ فاحِصُ الكِلى والقلوب"، وحده يعرف ما في أعماق كيان الإنسان، أكثر من الإنسان نفسه، أكثر ممّا يعرفه عنه نفسه. لهذا أحيانًا كثيرة لا نفهم مشيئة الله في تعاطيه مع البشر، لا بل نرفضها. نعترض كيف يقبل فلان، أو يساعده، أو يرحمه، مع أنَّ حياته كانت حياة خاطئة دَنِسَة. نحن البشر نحكم على النَّتائج والظَّاهِر، أمّا الرَّبُّ فيرى حقيقة كيان الإنسان، ويعرف كلَّ ما أوصل هذا الإنسان لما فيه مِنْ خطايا. ولكنَّه عندما يرى أنَّ في عمق قلبه شيئًا للرَّبّ، فإنّه يرحمه ويترأَّف به ويفتح له طريق التَّوبة والعودة إليه، فإنْ تجاوَب مع مبادرة الله، حصل على نعمةٍ وبركةٍ تقلب كيانه وحياته رأسًا على عَقِب. وإنْ رفض يبقى في ظلمته وموته.

لماذا نادانا الرَّبُّ وطَلَبَ القلب منّا قائلًا: "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ، وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي" (أم 23: 26)؟ لأنَّه إلهنا الحنون والمُحِبّ، أعطانا نفسه بالكُلِّيَّة أوَّلًا، أعطانا قلبه، ويسألنا بدوره أن نتجاوب مع محبَّته. الإله يتعاطى معنا كأشخاصٍ لا كعبيد. يطلب أنْ نبادله محبَّتِه كأبناءٍ له، فلا يفرض علينا أيّ أمرٍ. يطلب ولا يفرض. الابن الحقيقي وحده مَنْ يُعطي قلبه لأبيه. لا يقبل أقَلّ مِنْ كلِّ الكَيَان، كما أعطانا نفسه بالكلِّيَّة، فنحن لا نستطيع أنْ نُعطي أقلّ مِنْ هذا. حُبٌّ بحُبٍّ، كيانٌ بالكلية بكيانٍ بالكُلِّيَّة. نحن نحاول أنْ نُبادِلَه محبَّته، ولكنَّنا نرى أنفسنا عاجزون وغير قادرين على هذا العطاء، ولكن متى أرَيْنا الرَّبَّ نيَّتنا القلبيّة العميقة تجاهه، عندها يَسْكُبُ مِنْ محبَّتِهِ ورحمَتِهِ في كياننا، فنتعلَّم كيف نُحِبُّه مِنْ محبَّتِه نفسها، وكيف نُحبُّ الآخَرين أيضًا مِنْ محبَّته الَّتي يسكبها كلَّ يومٍ في كياننا.

إذا فهمنا هذا الكلام بعمقٍ بروحِ الله، فعندها تتَّضِح الحقيقة لنا، بأنّه هناك حالتان فقط، إمّا أن يكونَ القلبُ لله وإما للعالم، ليس مِنْ حلولٍ وسطى. لهذا إمّا تكون حارًّا أو باردًا، إمّا لله بالكُلِّيَّة وإمّا للعالم بالكُلِّيَّة. لهذا نحن الَّذين لبسنا المسيح، مَسعانا في كلِّ حياتِنا كَقَوْلِ النّبي داود: "قلبًا نقيًّا أخلق فيَّ يا الله" (مز 50). نسعى لأنْ نُنَقّي قلبَنا بنعمةِ الله، مِنْ كُلِّ ما هو غريب عن روح المسيح وحياته. لكي لا يأسره روح العالم وملذّاتِه وشهواته، فننخدِع به، ونظنُّ بأنَّ حياتنا منه. وهذا هو الموت الحقيقيّ.

مَنْ أراد أن يكون ابنًا حقيقيًّا للرَّبّ، عليه أن يُفرِغ كيانَهُ مِنْ كُلِّ أمرٍ يقف عائقًا بينه وبين أبيه السّماويّ. يتعلَّم أْن يُخلي نفسَه بالكُلِّيَّة، لكي يتقبّل محبّةَ أبيه الحنون في كيانه، فيعود إلى الصُّورة الأولى، صورة الابن الحقيقيّ، صورة المسيح. لهذا في مسيرة حياتنا نُبْقِي قلوبَنا وأعيننا مشدودةً نحو الرَّبِّ ووَصاياه، لكي يرشدَنا هو بحكمته ورحمته إلى ملكوت محبّته. ونقول له يا أبي افحص قلبي، ونَقِّه مِنْ كلِّ دَنَسٍ أو شائبة، لكي يبقى لك وحْدَكَ بالكُلِّيَّة. فتُصْبِح هذه المحبَّة الإلهيَّة في القلب كنارٍ لا نستطيع إبقاءها محصورةً داخلنا، بل نقول مع النّبيّ إرمياء: "‎فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي، فَمَلِلْتُ مِنَ الإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ" (إر20: 9). فلا نستطيع إمساكها في كياننا، بل نريد مَدَّها إلى كُلِّ إنسانٍ في هذا العالم، لكي نجعلهم يشعرون ويلمسون محبَّة الله وحنانه، كما نحن نعيشها في كياننا. ونُصَلِّي كما صَلّى القدِّيس سلوان مِنْ أجل كُلِّ شعوب الأرض بأنْ ”يعرفوك بِرُوحِكَ القُدُّوس“. ‎

"لَكَ قَالَ قَلْبِي: »قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي«

وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ." (مز27: 6)

أنقر هنا لتحميل الملفّ