نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 14 نيسان 2024
العدد 15
الأحد (4) من الصَّوم (البارّ يوحنّا السّلّميّ)
اللّحن 4- الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *14: الأحد الرّابع من الصَّوم (البارّ يوحنّا السّلّميّ)، الرُّسُل أريسترخس وبوذوس وتروفيمس وهم من السَّبعين *15: الرَّسول الشَّهيد كريسكس، *16: الشَّهيدات أغابي وإيريني وخيونيّة الأخوات العذارى، القدّيسة غاليني ورفقتها اللّواتي كنّ من كورنثوس *17: الشّهيد في الكهنة سمعان الفارسيّ ورفقته *18: خميس القانون الكبير، البارّ يوحنّا تلميذ غريغوريوس البانياسيّ *19: المديح الكبير، الشّهيد في الكهنة بفنوتيوس *20: سبت الأكاثِسْتُس (المديح الكبير الَّذي لا يُجلَس فيه)، البارّ ثيوذورُس الشّعريّ، القدّيس أنستاسيوس بطريرك أنطاكية المعترف، القدّيس زكّا العشّار.
كلمة الرّاعي
المرض النَّفسيّ والمرض الرُّوحيّ وشفائهما
المرض النَّفسيّ له أسباب عديدة وكثيرة وقد تكون مرتبطة أحيانًا كثيرة بالبُعد الرُّوحيّ لحياة الإنسان. المرض الرُّوحيّ قد يظهر إلى الخارج من خلال المرض النَّفسيّ ويكون حينها سببًا له، كما أنّ المرض النَّفسيّ يمكن أن يولِّد أمراضًا روحيَّة متعدِّدة. الصِّحَّة النَّفسيّة للإنسان مُرتبطة بصحَّتِه الرُّوحيّة والعكس صحيح، وكلاهما يؤثّران على صِحَّة الجسد. أيضًا، قد تولّد الأمراض الجسديَّة أمراضًا نفسيَّة أو حتّى روحيَّة.
الإنسان كيان متكامل ومترابط، لا يمكنك أن تفصل فيه ما للنَّفس أو ما للرُّوح عن ما للجسد، والعكس صحيح، من هنا شفاء الإنسان من أمراضه المتعدِّدة مهما كان مصدرها الأساسيّ يجب أن يكون شفاءً كيانيًّا. كيف للإنسان أن يدخل إلى عمق كيانه ليبحث عن الشّفاء؟!... ما هي الطّريقة أو الطُّرق لذلك؟!...
* * *
لا شفاء لمن لا يطلبه، ولا يطلب شفاءً من لا يعترف بمرضه أو يعرف أنّه مريض. هل كلّ إنسان مريض نفسيّ؟!... يجيب الأب يوحنّا رومانيدس بأنّ "كلَّ إنسانٍ هو مريض نفسيّ بالمعنى الآبائيّ. ليس بالضَّرورة أن يكون مصابًا بالفصام لكي يكون مريضًا نفسيًّا. من وجهة نظر الآباء، تعريف المريض النَّفسيّ، هو كلّ مَن لا تعمل قدرته النّوسيّة (من 'نوس' νοῦς'') بطريقة صحيحة، بمعنى أن نوسه مملوء بالأفكار، لا الأفكار الرَّديئة وحسب بل والحسنة أيضًا" (https://www.orthodoxlegacy.org/?p=3289).
الـ "نوس" هو العضو الرُّوحيّ في الإنسان الَّذي من خلاله يتواصل مع الله ويتلقّف النّعمة الإلهيَّة. إنّه مركز القلب، والقلب هو مركز الكيان الإنسانيّ. نقاوة القلب من نقاوة النُّوس، ونقاوة النُّوس يحقِّقها الإنسان بقوّة النّعمة الإلهيّة عبر الصَّلاة والصَّوم والغسل بالكلمة الإلهيَّة وعيش المحبَّة بالخدمة وإخلاء الذّات بالتَّواضع.
شفاء الإنسان من أمراضه الرُّوحيّة يحقِّق له الشّفاء من أمراضه النَّفسيّة، العكس ليس صحيحًا، علمًا أنّه من أهمّ أسباب الأمراض النَّفسيّة الآلام أو الأهواء السَّاكنة في قلب الإنسان أي في عالمه الدَّاخليّ، أي "في أفكاره وضميره وشعوره بالذَّنب وانفعالاته"، أو الإيذاء الجسديّ والمعنويّ للطِّفل أو التَّربية الخاطئة ونقص المحبَّة في العائلة وبالتّالي التَّعامل الخاطئ مع المشاكل الأسريّة أو الاجتماعيّة. أيضًا، رفض واقع أو مرض جسديّ مُعيَّن والعجز عن التَّعامل معه، هو من الأسباب المهمّة للأمراض النَّفسيّة. طبعًا يوجد أمراض نفسيّة مرتبطة بالجهاز العصبيّ هذه لا بدّ من معالجتها بالأدوية المناسبة الَّتي يصفها الأطبّاء المختصّون، أوّلًا، ومن ثمّ بالمرافقة النَّفسيّة والرُّوحيّة.
* * *
للأسف ليس لدينا هنا المجال، في هذه العجالة، أن نتوسّع في أسباب الأمراض النَّفسيّة والرُّوحيّة وأدويتها وعلاجاتها، لكن جلّ ما نبتغيه هو القول أنَّ الحياة الرُّوحيّة كلّما كانت سويَّة كلما ولّدت اتّزانًا عند الشَّخص وبالتَّالي حرّيّة نابعة من محبّة الله وأولويّة وصيّته في الحياة، ومن محبَّة القريب وخدمته بفرح. طبعًا، الحياة الرُّوحيّة ليست سهلة، ولا يمكن للإنسان أن يعيشها ما لم يتعلَّم أن يتواضع أوَّلًا أي أن يتخلَّى عن مشيئته بإزاء مشيئة الله وأن يقبل بطلب المشورة لا بل الشُّورى من المختَبَرين أكثر منه في هذ الدّرب.
القدّيس يوحنّا السُّلّميّ الَّذي نعيّد له اليوم هو من أهمّ علماء الرُّوح والنفس على مرّ القرون، وما كتابه "السُّلّم إلى الله" إلَّا خلاصة خبرته الشَّخصيّة وخبرة الكنيسة التَّراكميَّة بإلهام الرُّوح القدس وفعله. طبعًا، مسيرة الحياة الرُّوحيّة للإنسان العاديّ، أي الَّذي لا يعاني من اضطرابات نفسيّة ظاهرة ومتحكّمة به، هي جهاد للتغيُّر عن الفكر العالميّ للتَّحوُّل إلى فكر المسيح، وهذه المسيرة لا بدّ أن تبدأ بالتَّغرُّب عن العالم أي فلسفته ونمط حياته إلى حياة متمحورة حول يسوع المسيح تقود الإنسان نحو تخطّي الذّات بنعمة الله وغلبة الأهواء المُستحكمة بالإنسان بفعل الصَّلاة والصَّوم والإرشاد الرُّوحيّ والاعتراف والتَّوبة ومعرفة النّفس لكي بالاتّضاع يثبت في الفضيلة ويقتني المحبّة الإلهيّة الَّتي هي "رباط الكمال" (كولوسي 3: 14) بين الإنسان والله وبين الإنسان والإنسان حيث هناك حرِّيَّة أبناء الله (راجع رومية 8: 21) ...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الرّابع)
إنَّ تِلْمِيذَاتِ الرَّبّ تَعَلَّمْنَ مِنَ الـمَلاك الكَرْزَ بِالقِيَامَةِ البَهِج، وَطَرَحْنَ القَضَاءَ الجَدِّيَّ، وَخَاطَبْنَ الرُّسُلَ مُفْتَخِرَاتٍ وَقَائِلات: سُبِيَ الـمَوْت، وَقَامَ الـمَسِيحُ الإِلَه، وَمَنَحَ العَالَمَ الرَّحْمَةَ العُظْمَى.
طروباريّة البارّ يوحنّا السّلّمي (باللّحن الثّامن)
للبَرّيَّةِ غَيرِ الـمُثمِرَة، بِـمَجاري دموعِكَ أَمرَعتَ، وَبِالتَّنَهُّداتِ الَّتي مِنَ الأعَماقِ، أَثْـمَرْتَ بِأَتعابِكَ إلى مائَةِ ضعْفٍ. فصِرتَ كَوَبًا لِلْمَسْكُونَةِ تَسْطَعُ بِالعجائِبِ، يا أَبانا البارَّ يوحَنّا. فابتَهِل إلى الـمَسيح الإلَهِ فِي خَلاصِ نُفوسِنا.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأقدّم لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ من الشَّدائد، لكنْ بما أنّ لكِ العِزَّةَ الَّتي لا تُحارَب، أعتِقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 6: 13- 20)
الرَّبُّ يُعْطِي قُوَّةً لِشَعْبِهِ،
قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ اللهِ.
يا إخوَة، إنَّ اللهَ لـمّا وَعَدَ إبراهيمَ، إذ لَم يُمكِن أَن يُقسِمَ بِما هُوَ أَعظَمُ مِنهُ، أَقسَمَ بِنَفسِهِ، قائِلًا لَأبُارِكَنَّكَ بَرَكَةً وَأُكَثِّرَنَّكَ تَكثيرًا. وَذاكَ، إذ تَأنَّى نالَ الـمَوعِد. وَإنَّما النّاسُ يُقسِمونَ بِما هُوَ أَعظَمُ مِنهُم وَتَنقَضي كُلُّ مُشاجَرَةٍ بَينَهُم بِالقَسَمِ لِلتَّثبيت. فَلِذَلِكَ، لَمّا شاءَ اللهُ أَن يَزيدَ وَرَثَةَ الـمَوعِدِ بَيانًا، لِعَدَمِ تَحَوُّلِ عَزمِهِ، تَوَسَّطَ بِالقَسَمِ، حَتّى نَحصُلَ بِأمَرَينِ لا يَتَحَوَّلانِ وَلا يُمكِنُ أَن يُخلِفَ اللهُ فيهِما، عَلى تَعزِيَةٍ قَوِيَّةٍ، نَحنُ الَّذينَ التَجَأنا إلى التَّمَسُّكِ بِالرَّجاءِ الـمَوضوعِ أَمامَنا، الَّذي هُوَ لَنا كَمِرْساةٍ لِلنَّفسِ أَمينَةٍ راسِخَةٍ تَدخُلُ إلى داخِلِ الحِجابِ حَيثُ دَخَلَ يَسوعُ، كَسابِقٍ لَنا، وَقَد صارَ عَلى رُتبَةِ مَلكيصادَقَ، رَئيسَ كَهَنَةٍ إلى الأبَد.
الإنجيل (مر 9: 17- 31)
في ذَلِكَ الزَّمان، دَنا إلى يَسوعَ إنسان وَسَجَدَ لَهُ قائِلًا: يا مُعَلِّم، قَد أَتَيتُكَ بِابني بِهِ روح أَبكَمُ، وَحَيثُما أَخَذَهُ يَصرَعُهُ فَيُزبِدُ وَيَصرِفُ بِأسَنانِهِ وَيَيبَسُ. وَقَد سَألَتُ تَلاميذَكَ أَن يُخرِجوهُ فَلَم يَقدِروا. فَأجَابَهُ قائِلًا: أَيُّها الجيلُ غَيرُ الـمُؤمِنِ، إلى مَتى أَكونُ عِندَكُم؟ حَتّى مَتى أَحتَمِلُكُم؟ هَلُمَّ بِهِ إلَيَّ. فَأتَوهُ بِهِ. فَلَمّا رَآهُ لِلوَقتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ فَسَقَطَ عَلى الأرَضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزبِد. فَسَألَ أَباهُ مُنذُ كَم مِنَ الزَّمانِ أَصابَهُ هَذا؟ فَقالَ مُنذُ صِباهُ، وَكَثيرًا ما أَلقاهُ في النّارِ وَفي المِياهِ لِيُهلِكَهُ، لَكِن إنِ استَطَعتَ شَيئًا فَتَحَنَّن عَلَينا وَأَغِثنا. فَقالَ لَهُ يَسوع: إنِ استَطَعتَ أَن تُؤمِنَ فَكُلُّ شَيءٍ مُستَطاع لِلمُؤمِن. فَصاحَ أَبو الصَّبِيّ مِن ساعَتِهِ بِدُموعٍ وَقالَ: إنّي أُؤمِنُ يا سَيِّدُ، فَأغِث عَدَمَ إيماني. فَلَمّا رَأَى يَسوعُ أَنَّ الجَمعَ يَتَبادَرونَ إلَيهِ، انتَهَرَ الرّوحَ النَّجِسَ قائِلاً لَهُ، أَيُّها الرُّوحُ الأَبْكَمُ الأصَمُّ، أَنا آمُرُكَ أَن تَخرُجَ مِنهُ وَلا تَعُد تَدخُلُ فيه. فَصَرَخَ، وَخَبَطَهُ كَثيرًا، وَخَرَجَ مِنه، فَصارَ كالـمَيِّتِ، حَتّى قالَ كَثيرونَ إنَّهُ قَد مات. فَأخَذَ يَسوعُ بِيِدِهِ وَأَنهَضَهُ فَقام. وَلَمّا دَخَلَ بَيتًا، سَألَهُ تَلاميذُهُ عَلى انفِرادٍ، لِماذا لَم نَستَطِع نَحنُ أَن نُخرِجَهُ؟ فَقالَ لَهُم: إنَّ هَذا الجِنسَ لا يُمكِنُ أَن يَخرُجَ بِشَيءٍ إلاَّ بِالصّلاةِ والصَّوم. وَلَمّا خَرَجوا مِن هُناكَ، اجتازوا في الجَليلِ، وَلَم يُرِد أَن يَدريَ أَحَد. فَإنَّهُ كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَهُ وَيَقولُ لَهُم، إنَّ ابنَ البَشَرِ يُسلَمُ إلى أَيدي النّاس، فَيَقتُلونَهُ، وَبَعدَ أَن يُقتَلَ، يَقومُ في اليَومِ الثّالِث.
حول الإنجيل
في مسيرة الصَّوم المُقدَّس تستَعِر الحرب ولا يهدأ الشِّرّير. فيحتاج المؤمن إلى الثَّبات والمُقاومة من خلال الصَّوم والصَّلاة والإيمان .
يحاربنا الشِّرّير لمنعنا من الصُّعود إلى السَّماء ولهذا نحتاج إلى وَعيٍ روحيّ عميق ولمعرفة أدَقّ تفاصيل الحياة الرُّوحيّة.
أب متألِّم لأنّ ابنه مسكون بشياطين صورة حقيقيَّة لواقع الإنسان الَّذي يغلبه الشِّرّير حالة تظهر حقيقة الألم والحزن والمَرارة في نفوس الأهل. أب حمل أحزانه وسكبها أمام ربّ المجد يسوع المسيح متوسِّلًا الشِّفاء لولده طالبًا المساعدة من كلّ قلب مليئًا بالشَّكّ ولكنّه يحمل في طيّاتِه طلب التَّحنُّن بقَوْله (إن كنت تستطيع شيئًا تحنَّن علينا). حنان ربّنا فائقٌ وخاصَّةً أمام الإنسان المشوَّه المَضروب من الشَّياطين بصورة هذا الشَّاب المَسكون بروحٍ نجسٍ كما سمّاه الرَّبُّ روحٌ أبكَم أصمّ. الشَّيطان ليس مُجرَّد فكرة إنَّما هو حقيقة موجودة حيث أنَّ المَسيح أعلَنَ بنفسه للتَّلاميذ "رأيتُ الشَّيطان ساقطًا مثل البَرق من السّماء" (لوقا ١: ١٧) .
ربَّنا وحدَه له السُّلطان على الأرواح النَّجِسَة وهذه إحدى علامات حضور ملكوت الله في العالم .الشَّك والإيمان هما مرافقين لحياة الإنسان ولكن تكمن الأهميَّة بكيفيَّة تحويل هذا الشَّكّ والاضطراب إلى إيمانٍ حارّ .فالإرادة الحسنة والرَّغبة ليصبح الإنسان مؤمنًا خطوة أولى، والتَّوجُّه لربّنا يسوع له المجد والاعتراف بعدم الإيمان الخطوة الثّانية. هكذا فعل أب الشّاب المسكين، وبعد هذا نعمة ربّنا تعمل لأنّنا نمللك الإرادة الحسنة ونعترف بضعفنا .نعمة الله تُحَوِّل كلَّ ضعفٍ إلى قوَّة كبيرة لتساعد في تجاوز الآلام والمرارة والمَرَض. نعمة الله قوَّة للضَّعيف فتحوِّل اضطرابه وعدواته إلى سلام وصداقة والخوف والعار إلى شجاعة وجرأة .
ربَّنا أتى ليمنحنا الرَّجاء ويطرد عنّا الشَّكّ ويشفينا من كلِّ ضعفٍ وموت، ولكن ما نحتاجه هو أن نعبِّر له عن ثقتنا به لنجِدَ الرَّجاء به في وسط هذا العالم المُوحِش ليَشْفي أوجاعنا وآلامَنا، آمين.
الجهاد عند القدِّيس يوحنَّا السُّلَّمي
عاشَ القدِّيسُ يوحنَّا السُّلمي بينَ عامَي 525 و 600 م. على وَجْهِ التَّقريب. قَضَى مِنْها أَربعينَ عامًا مُتَوحِّدًا ناسِكًا. اختبرَ خِلالَها جِهادَ التَّوبَةِ والتَّصَدِّي لحروبِ العدوِّ اللاَّمنظورة، مُقْتَنِيًا لِذَاتِهِ فَضائِلَ جَمَّةً جمَّل نَفْسَهُ بها، إلى أنِ انتُخِبَ رئيسًا لدير سيناء.
ضارَعَ بجِهادِهِ كِبارَ الشُّيوخِ بالنُّسْكِ والفِطنة، مِمَّا دَفَعَ رئيسَ ديرِ رايثو أن يَطلبَ مِنهُ كِتَابَةَ بعضَ التَّعاليمِ الرُّوحيّةِ لمنفَعَةِ الرُّهبانِ في مسيرةِ جِهادِهم. ولأنَّهُ تزيَّنَ بِفَضيلةِ الطَّاعَةِ للإِخْوَةِ فَقَدْ لَبَّى ما طُلِبَ مِنْهُ، وكتبَ مُؤَلَّفاً استوحى فِكرَتَهُ من السَّلَّم الَّتي رآها يعقوب (تك 28: 12-13)، وسمَّاه "السُّلَّم". سُمِّيَ فيما بعد "سُلَّم السَّماء" أو "سُلَّم الفضائل". لهذا السَّبَبِ دُعي القدِّيسُ يُوحنَّا بالسُّلَّمي.
رتَّبَ في كتابهِ هذا ثلاثينَ مقالَةً، تُمَثِّلُ كُلُّ واحِدَةٍ منها دَرَجَةً مِنْ دَرَجاتِ السُّلَّمِ الرُّوحيّ هذا. اعتبرَ القدِّيسُ يُوحنَّا أَنَّ الجِهادَ الحَقِيقيَّ هو الحربُ ضِدِّ الخطايا، وَأَنَّ الانتصارَ عَلَيها يَقُودُ إلى الاتِّحادِ باللهِ مِنْ خِلالِ "السُّكونِ والصَّلاةِ واللَّاهوى والمحبَّة"، وهذا لا يتمُّ إلَّا بالتدرُّج في الجهاد.
لا يمكنُ لأيٍّ كانَ أَنْ يَصعَدَ سُلَّمَ الفَضائلِ هذا بِقَفزةٍ واحِدة، وَلَكِنْ من خلالِ الاستمرارِ بالجهادِ الَّذي يُرافِقُهُ الصَّبرُ. يبدأُ الجهادُ عِنْدَه بِتَرْكِ ملذَّاتِ العالَمِ وطلَبِ الإِلهيَّات، ترافِقُهُ توبَةٌ دائِمَةٌ. وهذا يتطَلَّبُ شرطًا أساسيًّا، ألا وهوَ رغبةُ الإنسانِ وإرادتُهُ الصَّادِقَةُ ورَغْبَتُهُ بالخلاص. وإذا ما كانَتْ هذه الرَّغبَةُ حارَّةٌ فَإِنَّ اللهَ يُغدقُ من فَيْضِ نِعَمِهِ على صاحِبِها فيتقوَّى في مسيرَةِ جِهادِه. يُشَدِّدُ القدِّيسُ يوحنَّا في تَعليمِهِ أنَّهُ مِنْ غيرِ المُمْكِنِ أَنْ يكونَ الجميعُ بِدَرَجَةٍ روحيَّةٍ واحدة. وأنَّ لكلٍّ منَّا مَقدِرَةً على الجهادِ، يجبُ أن نُنَمِّيها وأن نستثمرها بالشَّكلِ الأمثل.
يُلَخِصُّ القدِّيسُ يوحنَّا الأهواءَ إلى ثلاثَةٍ رئيسيَّة: الشَّراهةُ وحُبُّ المالِ والعُجب، يتفرَّعُ عنها خمسةٌ أخرى: الزِّنى والغضبُ واليأسُ والضَّجرُ والكبرياء. ويَذكُرُ أنَّ الخلاصَ مِنْ هذهِ الأهواء لا يَتِمُّ بالاتِّكالِ على مَقْدِرَتِنا، وبأن نتوهَّم أنَّنا لسنا بحاجَةٍ إلى مرشدٍ. بل يُشَدِّدُ على ضَرورةِ أن يرافِقنا أَبٌّ روحيٌّ مُختَبِرٌ "لأنَّنا بِمِقدارِ ما يزدادُ تَقَيُّحَ جروحِنا نحتاجُ إلى طبيبٍ أكثَرِ مهارة". وأنْ نَنْتَبِهَ جيِّدًا ألَّا نسْقُط مُجدَّدًا كُلَّما ارتقينا درَجَةً أعلى، وألَّا نَعودَ إلى الوراء، بَلْ أنْ "نَهرُبَ" إلى الأمامِ، وأَنْ نَثْبُتَ في سَعيِنا بلا خوف، مُجاهِدينَ بِكُلِّ ما لدينا لاقتناءِ الفضائِلِ المُوصِلَةِ إلى مُعايَنَةِ وَجْهِ الرَّبِّ يسوع.