Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 9 أيّار 2021     

العدد 19

الأحد (1) بعد الفصح- توما الرّسول    

الإيوثينا 1

أعياد الأسبوع: *9: تجديد قيامة المسيح، وتفتيش القدّيس توما الرّسول، وتذكار النّبيّ إشعياء، والشّهيد خريستوفوروس *10:  الرَّسول سمعان الغيّور، البارّ لَفرنديوس، البارّة أولمبيَّا *11: تذكار إنشاء القسطنطينيّة، الشَّهيد موكيوس، كيرلّس وميثوديوس المعادِلَي الرُّسل *12: القدّيس ابيفانيوس أسقف قبرص، جرمانوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *13: الشّهيدة غليكاريّة ولاوذيسيوس *14: إيسيذورس المستشهد في خيّو، ثارابوندُس أسقف قبرص *15: البارّ باخوميوس الكبير، أخلِّيوس العجائبيّ (لارسا).

كلمة الرّاعي

يا توما لا تكن غير مؤمن...

توما الرّسول أعاد الرَّبُّ خلقه بحنان عتابه له حين دعاه قائلًا: ”هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا“ (يوحنّا 20: 27). الكثيرون اليوم يقولون: ”أنا لن أؤمن قبل أن يُظهِر لي الرّبّ ذاته...“، هذا يُعتَبر تحقيقًا علميًّا عن حقيقة وجود الله وكينونته. توما لم يكن ملحدًا ولا شكَّاكًا، بالحقيقة، كان إنسانًا يطلب أن يدخل إلى الأعماق من خلال جسَّ الظَّواهِر والملموسات، كان يريد أن يفهم ويُدرِك ويعرف من خلال حواسه ما هو أبعد منها أي ما يتعلَّق بسرّ الله وسرّ الإنسان وسرّ الحياة والموت...

كلّ منّا قد يكون في داخله توما، ولكن قد يُسَطِّح الإنسان ”التّوماويَّة“ الّتي فيه حين ينحرف نحو الإلحاد أي حين يرفض أن يلمس ويعاين بعينَي القلب ويتمسَّك فقط بحواسه الخارجيَّة معتبرًا إيّاها المقياس الوحيد للمعرفة والاختبار، محجِّمًا بذلك حقيقته الإنسانيّة الّتي أساسها صورة الله الّتي فينا والّتي خُلِقنا عليها...

*          *          *

من يقدر أن يتصوَّر أنَّ إنسانًا عُذِّب ومات أشنع ميتة يمكن أن يقوم من الموت بطبيعة مُجَدَّدة غير خاضعة لمقاييس الزمان والمكان والحاجة؟!... قيامة الرَّبّ يسوع، لمن يقبلها، هي عطيَّة الفرح الأبديّ والغلبة على كلّ خوف. إذا كنت سأقوم من بين الأموات إلى حياة لا تفنى حيث لا أكون خاضعًا، فيما بعد، لمقاييس هذا الدّهر ومحدوديّته، وحيث لا يوجد حاجة سوى إلى واحد وهذه الحاجة مُعطاة بفيض لا ينتهي، وحيث لا هموم ولا ضيقات ولا خطيئة ولا ألم ولا حزن بل سلام وراحة وفرح بالوحدة والشّركة مع الله ومع البشريّة... إذا كان هذا إيماني وهذا رجائي اليقينيّ فما الَّذي يمكن أن يهمّني في هذا العالم سوى أن أعمل كلّ ما بوسعي هنا لأقتني هذه الحياة المُعطاة لي في المسيح القائم من بين الأموات؟!...

قد يظنّ النّاس هذا الكلام هذيانًا أو حلمًا لا يمكن تحقيقه، لكن هذه هي حقيقة إيماننا بالقائم من بين الأموات، وهذه هي التَّحدِّيات الَّتي واجهها توما حين قال له إخوته الرسل: ”قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ!“ (يو 20: 25). لذلك، يقول إشعياء النّبيّ: ”مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟“ (53: 1).

*          *          *

الإنسان، في هذه الحياة، يبقى تائهًا حائرًا لا يعرف أين يذهب وماذا يريد طالما هو يعتبر أنّ حياته تنتهي في هذا العالم مع فناء جسده. من هنا أهمّيّة شهادة توما وما حصل بينه وبين الرَّبّ، إذ صار هذا لأجل تثبيتنا في إيماننا بالقيامة، وبالتالي إدخالنا إلى الحياة الجديدة في المسيح من خلال الاشتراك معه بشبه موته لنقوم معه على شبه قيامته (راجع رومية 6). توما تنبَّأ، قبلًا، بما لم يكن هو مدركًا له حين قال للتّلاميذ، في صعود الرَّبّ إلى أورشليم ليقيم لعازر من بين الأموات: ”لنذهب نحن أيضًا لكيّ نموت معه“ (يوحنّا 11: 16). من لا يموت مع يسوع لا يحيا معه. أي من

لا يموت عن العالم أي يرفض طاعة العالم وأسياده وشهواته ومصالحه وأفكاره ومن لا يحارب العالم ومنطقه ورئاساته لايستطيع أن يكون للمسيح، لأنّ الرَّبّ أوضح لنا ذلك بقوله: ”إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ“ (يو 15: 18—19). لا مهادنة بين المسيح ومن له مع العالم. علينا أن نحارب ميولنا إلى العالم وانسياقنا وراءه في دواخلنا أوَّلًا حتّى نستطيع أن نحاربه خارجًا عنّا. الرَّبُّ صريح وواضح: ”مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ“ (متّى 12: 30).

            *          *          *

أيّها الأحبّة، توما الرّسول صار لنا دليلًا حيًّا وشاهدًا أمينًا على قيامة الرّبّ يسوع المسيح يقينًا.

القيامة هي حقيقتنا الأبديَّة وغاية وجودنا وجهادنا في هذا العمر. من لا يقبل نفسه في ضعفها ويقرّ به وينطلق منه في طلب العون الإلهيّ بالنّعمة لا يستطيع أن يدرك ماهيّة القيامة المختَبَرة في حياته اليوميّة بالتّوبة والاستغفار وطلب المسامحة وتقويم الفكر والسّيرة، ولا يقدر أن يفهم معنى قبول الآخَر ومسامحته والغفران له وحمله في ضعفه بطاعة الوصيّة في نعمة الرّوح القدس.

لا يفقه القيامة من لم يفهم أنّ الرَّبّ يسوع تألّم لأجله هو بالذات وحمل نتيجة خطاياه هو على الصَّليب وأهين بسببه، ولكنّه قَبِلَ هذا كلّه لأنّه يحبّه ولأنّه يريد له ”حياة أفضل“ (يو 10: 10).

من لم يدخل في هذه العلاقة الخاصّة مع الرّبّ يسوع المسيح ويعرف أنّه قد دفع دمه (أي الرَّبّ) ثمنًا لخلاص وحرّيّة وقيامة الإنسان الشّخص، فهو لا يمكنه فهم معنى قيامة الرّبّ ولا ارتباطها بحياته ولا الطّريق في الحقّ إلى الحياة الأبديَّة...

ومن له أذنان للسّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة للإيصوذن (باللّحن الخامس)

 المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للَّذين في القبور.

طروباريّة أحد الرّسول توما (باللّحن السّابع)

إذ كان القبرُ مختومًا أشرقتَ منه أيّها الحياة، ولما كانتِ الأبوابُ مُغلقة، وافيتَ التّلاميذَ أيّها المسيحُ الإلهُ قيامةُ الكلّ. وجدّدتَ لنا بهم روحًا مستقيمًا، بحسب عظيم رحمتك.

القنداق (باللّحن الثّامن)

ولئن كنتَ نزلتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إلّا أنَّك درستَ قوَة الجحيم، وقمتَ غالبًا أيُّها المسيحُ الإله، وللنّسوةِ حاملاتِ الطّيب قلتَ افرحنَ، ولِرسلِكَ وَهبتَ السّلام، يا مانحَ الواقعينَ القيام.

الرّسالة (أعمال الرُّسُل 5: 12-20)

عظيم هو ربُّنا وعظيمة هي قوّته

سبِّحوا الرَّبَّ فإنَّه صالِحٌ

في تلكَ الأيّام جَرَتْ على أيدي الرُّسُل آياتٌ وعَجائبُ كثيرةٌ في الشَّعب. (وكانوا كلُّهُم بِنَفْسٍ واحِدَةٍ في رُواقِ سُليمان، ولم يكُنْ أحَدٌ من الآخَرينَ يَجترِئُ أنْ يُخالِطَهُمْ. لكنْ كانَ الشَّعبُ يُعظِّمُهمُ. وكانَ جماعاتٌ مِنْ رجال ونِساءٍ ينضَمُّونَ بِكَثَرَة مُؤمِنينَ بالرَّبِّ) حتّى إنَّ النّاسَ كانوا يَخرُجونَ بالمرضى إلى الشَّوارِع ويضعونهُم على فرُشٍ وأَسِرَّةٍ ليَقَعَ ولَوْ ظِلُّ بطرسَ عنِدَ اجتيازهِ على بعْضٍ منهم. وكانِ يجْتمِعُ أيضًا إلى أورَشَليمَ جُمهورُ المدُنِ الّتي حوْلها يَحمِلون مرضىً ومعذْبينَ مِنْ أرواح نَجِسة. فكانوا يُشفونَ جَميعُهُم. فقامَ رئيسُ الكهَنةِ وكلُّ الّذينَ معهُ وهُمْ مِن شيعَةِ الصّدُّوقِيّينَ، وامتلأوا غَيرةً، فألقَوا أيدِيَهُم على الرُّسُلِ وجَعَلوهُم في الحبسِ العامّ، ففَتَحَ ملاكُ الرَّبِّ أبوابَ السِّجنِ ليلًا وأخرَجَهُم وقالَ امْضُوا وَقفِوا في الهيكلِ وكَلِّموا الشَّعبَ بِجميع كلِماتِ هذه الحياة.

الإنجيل (يوحنا 20: 19-31)

لمّا كانت عَشيَّةُ ذلِكَ اليومِ، وَهُوَ أوَّلُ الأُسبوع، والأَبوابُ مُغلَقةٌ حيثُ كانَ التّلاميذُ مُجتمِعينَ خوفًا مِنَ اليهودِ، جاءَ يسوعُ ووقفَ في الوَسْط وقالَ لَهم: السّلامُ لكم. فلمَّا قالَ هذا أراهم يَدَيهِ وجَنبَهُ. ففرِحَ التّلاميذُ حينَ أبصَروا الرَّبَّ. وقال لهم ثانية: السّلامُ لكم. كما أرسَلني الآبُ كذلكَ أنَا أرسِلُكم. ولما قالَ هذا نَفَخَ فيهم وقالَ لهم خذوا الرُّوحَ القُدُسِ، مَن غفرتُم خطاياهم تُغْفَرْ لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَتْ. أمَّا توما أحَدُ الاثنيَ عشَرَ الّذي يقالُ لهُ التّوأَمُ فلم يكنْ معَهم حينَ جاءَ يسوع. فقالَ لهُ التّلاميذُ الآخَرونَ إنَّنا قد رأيْنا الرَّبَّ. فقالَ لهُم إنْ لم أُعايِنْ أثرَ المساميرِ في يدَيْهِ وأضَعْ إصبَعي في أثرِ المساميرِ وأضَعْ يدي في جَنبِهِ لا أُومنِ. وبعدَ ثمانيةِ أيّامٍ كانَ تلاميذهُ أيضًا داخِلًا وتوما معَهم، فأتى يسوُعُ والأبوابُ مُغلقَة، ووقفَ في الوَسْطِ وقالَ السّلامُ لكم. ثمَّ قالَ لتوما: هاتٍ إصبَعَكَ إلى ههنا وعَاينْ يَدَيَّ. وهاتِ يَدَكَ وضَعها في جَنبي ولا تَكُنْ غيرَ مُؤمنٍ بَل مؤمنًا أجابَ توما وقالَ لهُ: رَبِّي وإلهيِ. قالَ لهُ يسوعُ لأنَّكَ رأيتني آمنت. طوبىَ للّذينَ لَمْ يَرَوا وآمنَوا. وآياتٍ أُخَرَ كثيرةً صَنَعَ يسوعُ أمامَ تلاميذِهِ لم تُكتَبْ في هذا الكتاب، وأمَّا هذهِ فقد كتبَتْ لتُؤمِنوا بأنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله. ولكي تكونَ لكم إذا آمنتم حياةٌ باسمِهِ.

حول الإنجيل

رسالة اليوم من سفر أعمال الرُّسُل تخبرنا عن الآيات الخارقة والأعاجيب الّتي صنعها الرُّسُل أمام الشَّعب بقوَّة الرُّوح القدس، حتّى أّن النّاس يؤمنون أنّه لو وَقَع ظلُّ بطرس على المرضى  كانوا يُشفَوْن. نرى في الرِّسالة أنّ المتخاصمين من اليهود عقائديًّا كالصَّدوقيّين والفَرّيسيّين اتّحدوا على عداوة الرُّسُل.

بينما تنتمي رسالة اليوم إلى زمن ما بعد العنصرة، نقرأ الإنجيل في زمن القيامة، ليبرهن لكلّ من يشكّ بقيامة يسوع، كما توما الرَّسول، وذلك لتأكيد القيامة بشكلٍ أوَّليّ لمن عاشوا مع يسوع وكانوا من تلاميذه. ترائى الرَّبُّ بعد القيامة لتلاميذه مساءً  ودخل عليهم بالسّلام والأبواب مغلقة، لأنّ الرُّسُل كانوا يعيشون حالة خوف واضطهاد بعد دفن الرَّبِّ، وأراهم يدَيْه وجنبه، ليؤكّد لهم أوّلًا أنّ الّذي حطّم أمخال الجحيم لن تصُدَّه أبوابًا مصنوعة بأيدي البشر، ويؤكّد لهم ثانيًا أنّه كما وعدهم بأنّه سيقوم في اليوم الثّالث، حقّق الوعد وأرادهم أن يشاهدوا ويلمسوا مكان الجراح بأنّه هو من صُلِب لا غِشَّ فيه دون شكّ.

ماذا حصل للتّلاميذ حين رأوا الرَّبَّ؟ فرِحوا، ذلك أنّ يسوع هو مصدر فرحٍ يختلف عن الفرح الدّنيويّ بين النّاس.كما أنّ السّلام الّذي منحه لهم الرَّبُّ هو سلامٌ لا كما يُعطيه العالم، إنّه سلام النّفس والجسد .

من هنا لم يكتفِ الرَّبُّ بذلك أي بمجرَّد التّأكيد على قيامته، بل منح الرُّسُل السَّلام مرّتين في هذا اللّقاء بعد القيامة كما كان قد أعطاه لهم مرّتين قبل القيامة (يو١٤: ٢٧).

لذلك بعد السّلام قال لهم "كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم". والإرسال هنا يعني إعطاء القوّة والسُّلطان على شفاء المرضى وطرد الشّياطين وإقامة الموتى كما جاء في رسالة اليوم. بالإضافة إلى هذا السُّلطان قلّدهم سلطانًا آخرَ وهو سلطانُ قوّة غفران الخطايا. لأنّ المسيح نفسه قال :"لأنّي ما جئت لأدين العالم بل لأخلّص العالم" (يو١٢: ٤٧).

توما الّذي شكّ جعل الرَّبَّ يأتي إليه وإلى الرُّسُل ثانيةً لِفَيْض محبّته وصلاحه، كي يعلّمنا أن نصرخ دومًا كصرخة توما: "ربّي وإلهي"، عند كلّ خطيئة وفحشاء نرتكبها، ويُعلّمنا أيضًا أنّ "الطّوبى والغبطة الأقوى هي للّذين يؤمنون ولم يَرَوْا". وقد اتّضح منذ ذلك الحين أنّ الإيمان ليس نِتاجَ المعرفة الاختباريّة والمحاولات العقليّة، ولكنّه انفتاح النَّفْسِ على حضور المسيح المتجسِّد. المسيح قام حقًا قام...!!

الألم والفرح في زمن الضّيق

عندما صلّى يسوع في الجثمانيّة قبل آلامه "كان يستشعر حزنًا وكآبة" (متّى 26،37). ردّد يسوع حينها ثلاث مرّات" أبتاه لتبتعد عنّي هذه الكأس..." كتعبير عن خوفٍ اعتراه. ممّا خاف يسوع، من الموت أم من الألم الّذي ينتظره؟ في الأناجيل لا إشارة واضحة إلى خوف المسيح من الموت، دون إقصاء هذا الاحتمال. لكنّ خوفه من الألم كان أكثر وضوحًا. الكلّ يقرّ بأنّ ألم الصّليب فظيعًا وبهذا نتفّهم خوف يسوع البشريّ.

نقرأ في الإنجيل خلال الحادثة عينها قول يسوع: "نفسي حزينة حتّى الموت" (متّى 26،38). حزن يسوع لم يكن نتيجة لحظات سبقت ساعات آلامه فحسب بل نتيجة خيبات مُتتالية رافقت مَسيرة بشارته. لا شكّ أنّ آلام الصّليب الجسديّة العتيدة كانت مبعث حزن وخوف. لذا فالألم، بخاصّة الجسديّ، لايمكن أن يُقرَن بالفرح. الألم هو مِن نِتاج الشَّرَّ. لحظة الألم نشعر بالحزن والتَّخلّي: "إلهي إلهي لما تركتني". الفرح والألم لا يتمازجان. تمازجهما حالة مرَضيّة (مازوشيّة) غريبة عن المسيحيّة. الأخيرة تعترف بالألم بكلّ عمقه وامتداداته الإنسانيّة، لكنّها تقدّم للإنسان القوّة في مواجهة الألم كأداة للكمال واليقظة. الألم يُخرج الإنسان من أمانه الوهميّ المبنيّ على خبراته الحسيّة المَحْضَة ويقوده إلى الاتّضاع وإدراك عمق مكانته في هذا العالم وإلى نضوج أكثر تجاه الله والإنسان.

الألم عجب لا ندركه إلّا في صليب المسيح، في المحبّة القائمة على المشاركة. حينها فقط نحيا الألم كعبور إلى الفرح وليس قرينه. الألم، بطبيعته، لا يحمل ميزة خلاصيّة. وحده ألم الصّليب هو الخلاص، الألم النّاجم عن محبّةٍ لا تطلب لذاتها ومشاركةٍ تزرعك في قلب ألم أخيك وحزنه وفقره.

في المسيحيّة، لا يُستنفد الفرح باللّذّة النّابعة من الحواس الجسديّة. لا تتعامل المسيحيّة مع الفرح كهدفٍ بحدّ ذاته، بل كتعبير عن كمال الإنسان في المحبّة والفضائل. إنْ لهثنا وراء الفرح لن نبلغه. إنْ جاهدنا لكمال إنسانيّتنا وتحرّرنا من عبوديّة حاجاتنا الحسيّة نتذوّق الفرح الّذي وعدنا يسوع أن لا يُنزع منّا. الفرح والألم، في عالمنا المباشر، نقيضان وفي عالم الصّليب هما توليفة متناغمة، يكون فيها الفرح تخطّيًا للألم والألم إمكانيّةً رجائيّة للفرح. "الفرح المُحزِن" عبارة سائدة على لسان الرُّهبان تعبّر عن عجب هذه التَّوليفة.

في زمن الضّيق الّذي نعيش، في زمن سيادة الشَّرّ والألم، كلٍّ منّا يحصد ما زرعه سابقًا في زمن اليسر والاستهلاك. كلّ من قرن فرحه بإشباع حاجاته الجسديّة وبإتمام ترفه يشبه إنسانًا بنى منزله على الرّمل فجاءت سيول الضّيق واللّصوصيّة لتهدمه. ومن بنى منزله على صخرة الجلجلة وأدّب نفسه بالحرمان الطّوعيّ والعطاء المجّانيّ فكلّ سيول الشَّرّ لن تقوى على منزله ولا يُنتزع فرحه منه.

اعتبروا من هذه الأيّام. تلمّسوا، في زمن الضّيق، حضور الله في هذا العالم على حسب قول بردياييف في قراءته لفكر دوستيوفسكي: "الله موجود بالضّبط لأنّ الشرّ والألم موجودان في هذا العالم. وجود الشَّرّ بُرهان على وجود الله. لو كان العالم حسنًا لا عيب فيه حينها لن تكون حاجة لله لأنّ العالم سيكون هو الله. الله موجود لأنّ الشّرّ موجود، هذا يعني أنّ الله موجود لأنّ الحرّيّة موجودة".

كونوا أحرارًا تجاه حاجاتكم الأنانيّة، وعبيدًا تجاه المسيح الإله الحرّ، فتتلقَّون منه حرّيتكم وفرحكم.

انقر هنا لتحميل الملف