نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 07 نيسان 2024
العدد 14
الأحد (3) من الصَّوم (السّجود للصّليب)
اللّحن 3- الإيوثينا 11
أعياد الأسبوع: *7: الأحد الثّالث من الصَّوم (السّجود للصّليب المكرَّم)، الشّهيد كليوبيوس، القدّيس جاورجيوس أسقف ميتيليني *8: الرَّسول هيروديون ورفقته وهم من السَّبعين *9: الشَّهيد آفبسيشيوس، القدّيسين رفائيل ونيقولاوس وإيريني من ميتيليني *10: القدّيسين ترانتيوس ويومبيوس ورفاقهما *11: الشّهيد أنتيباس أسقُف برغامس *12: المديح الرّابع، القدّيس باسيليوس المُعترف أسقف فارية، القدّيس أكاكيوس الآثوسيّ *13: القدّيس مرتينوس المعترف بابا رومية.
كلمة الرّاعي
التَّجارب والصَّليب
”اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ
فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ“ (يعقوب 1: 2)
نطلب في الصّلاة الرَّبِّيَّة إلى الله أن لا يدخلنا في ”تجربة“ وأن ينجّينا ”من الشّرّير“. لكن، خبرة القدّيسين في الكنيسة تعلِّمنا أنَّه بدون تجارب لا يمكن للإنسان أن يخلُص، لأنّه لن ينمو روحيًّا ولن يعرف قوّة الله ولن يثبت في الإيمان. هذا ما عبَّر عنه القدّيس أنطونيوس الكبير حين قال: ”لا أحد يدخل ملكوت السَّماوات بدون تجارب. اِرفع التَّجارب فلا يخلُص أحد“.
لماذا علينا أن نُقاسي التَّجارب لندخل ملكوت الله؟ ولماذا طلب إلينا المسيح أن نحمل صليبنا ونتبعه؟ ألا يمكننا أن نسير وراء المعلِّم دون ضيقات وآلام وامتحانات؟! ...
* * *
”إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ اللهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ اللهَ الَّذِي يَجْلِبُ الْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ“ (رومية 3: 5).
الإنسان يريد منذ البدء، منذ لحظة سقوطه أن يطرح خطيئته على غيره أي أن يحمِّل الآخَر مسؤوليّتها، لا بل أن يجعلها على عاتق الله أوَّلًا، ”الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ“... هكذا، كلُّ إنسانٍ ينسب مصدر خطيئته إلى الآخَر، والله هو أوّل من نحمّله أسباب خطايانا. يتهرّب الإنسان من تعهُّد ذاته لأنّه يريد أن يُسأَل آخَر عن وضعه المُزري، فيكون هو المظلوم والآخَر هو الجاني. دائمًا، يريد البشر في آلامهم أن يبقوا في جهلهم لأنّهم ينسبون الشَّرَّ إلى الخالق. هذا هو موقف اللّاإيمان، أن يُساءِل الإنسان الآخَرين عن فشله. الفشل موت والموت فشل... هذا بحسب البشر. لكنّ فَشَلَنا في صنع برّ الله حوّله المسيح إلى نجاح لأنّه ”أطاع (الله) حتّى الموت موت الصَّليب“ (فيليبي 2: 8)، وموتنا جعله حياة أبديّة إذ بالموت أمات الموت.
المقاييس للحياة والموت (مع المسيح) لا يمكن أن تكون خاضعة لمنطق الدُّنيا المحكوم من أهواء البشر في سقوطهم. كثرة خطايانا كشفت محبّة الله الّتي لا توصف ولا تُحَدّ المتجلّية على الصَّليب في المسيح المعلَّق عليه...
* * *
مشكلة الإنسان مع الصَّليب أنّه (أي الإنسان) لا يريد أن يتألّم رغم أنّ طريقه الّذي يُحاول فيه الهرب من الأوجاع هو بالضّبط مصدر مأساته. الحقّ صليب للملتوين والجهلاء، وأخطر الجهلاء من ظنّوا أنّهم عارفون. هنا، يصير صليب المسيح ”عثرة لليهود وجهالة لليونانيّين“ (1 كورنثوس 1: 23)، لأنّ من يطلب الآيات بروح يهوديّة يجرِّب الرّبّ ومن يريد حصر الله في منطقه البشريّ المحدود يُعقلن الإيمان.
عجائب الله لا تُحَدُّ ولا تُحصى والعقل والعلم هما عطيّة منه لخير البشريّة. المسألة بالنّسبة لإنسان السّقوط، وإن تردَّى ثوب الإيمان، هي أنّه في كلتا الحالتَين يريد أن يقبض على الله ويُخضعه لأهوائه.
الرَّبّ حرٌّ من كلّ أفكار البشر الّتي تريد حَدّه وحجزه في مفاهيم تدغدغ صنميّتهم الإيمانيّة أو عبادتهم للعلم والمنطق الدّنيويَّين. الإيمان أبعد أكثر ممّا نتصوَّر عن هذَين المنهجَين الوثنيَّين، ”لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ“ (إشعياء 55: 9).
* * *
أيّها الأحبّاء، الرَّبّ الإله صار إنسانًا، واتَّخذ كلّ ما لنا، ما خلا الخطيئة، ليُشرِكنا في ما له أي في ألوهيّته ويُحرِّرنا من ضعف الطّبيعة البشريّة بقوّته السّاكنة فينا بالرّوح القدس، ليردّنا إلى المصير الّذي خَلَقَنا من أجله. التّجسُّد الإلهيّ هو صليب العقل البشريّ الّذي إذا ما حمله الإنسان بالإيمان عرف مجد الله. المسألة الّتي تُعجِز عقل الإنسان هي كيف أنّ هذا الفاني والمعرَّض للأمراض والألم والموت يحمل في هشاشته قوّة الله؟! ... مفهوم القوّة عند البشر يختلف عنها عند الله، لأنّ قوّة الله تجلَّت في حَمْلِ ألم الصَّليب حبًّا، ومشاركةِ الإنسان موته ليصير موتُ المخلّص، في صورة الضّعف، استعلانًا لجبروت العليّ بتفجير الجحيم وتحرير الأبرار حين نزل إليه.
بعد القيامة، لم يعُدِ الموت الجسديّ هو إشكاليّة المؤمن بل الموت الرّوحيّ، لأنّ الأوّل صار معبرًا إلى الحياة الأبديّة بواسطة الوحدة مع المسيح في الأسرار المقدَّسة والبذل المُحِبّ للحياة في الطاعة لله؛ أمّا الثّاني، فهو ما يحاربه المؤمن بالجهاد الرّوحيّ والحكمة الإلهيّة في الإيمان ليغلبه بقوّة القيامة المتنزّلة عليه في الرّوح القدس بالمسيح الإله.
جسد ودم الرَّبّ المُقدَّسين هما زاد الحياة الأبديّة لغفران الخطايا والتّقديس، هذا من جهة. من جهة أخرى، الحضور السّرّيّ والفعليّ الحقيقيّ للرّبّ في هذه القرابين هو خارج الفحص البشريّ العقلانيّ والعلميّ، وهذا ما يشكّل عثرة صليب لعقل المشكِّك وتحقيقًا عمليًّا لقوّة القيامة ...
للمؤمن الصَّليب هو غلبةُ الحبِّ والقيامة، وللمُلْحِد الصَّليب أداة قتل الله في عقول البشر ...
لكن، إيماننا أنّه ”بالصَّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم“ ...
ومن استطاع أن يقبل فليقبل ...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الثّالِث)
لِتَفْرَحِ السَّمَاوِيَّات، وَلْتَبْتَهِجِ الأَرْضِيَّات، لأَنَّ الرَّبَّ صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وَوَطِئَ الـمَوْتَ بِالـمَوْتِ وَصَارَ بِكْرَ الأَمْوَات، وَأَنْقَذَنَا مِنْ جَوْفِ الجَحِيم، وَمَنَحَ العَالَمَ الرَّحْمَةَ العُظْمَى.
طروباريّة السُّجود للصَّليب (باللّحن الأوّل)
خَلِّص يا رَبِّ شَعبَكَ، وَبارِك مِيراثَكَ، وامنَحِ عبيدَكَ المؤمِنينَ الغَلَبَة على الشّرّير، واحفَظ بِقُوَّةِ صَليبِكَ جَميعَ الـمُختَصّين بِكَ.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأقدّم لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ من الشَّدائد، لكنْ بما أنّ لكِ العِزَّةَ الّتي لا تُحارَب، أعتِقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 4: 14- 16، 5: 1- 6)
خَلِّصْ يَا رَبُّ شَعْبَكَ،
إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخ، إِلَهِي.
يا إخوَة، إذ لَنا رَئيسُ كَهَنَةٍ عَظيم، قَدِ اجتازَ السَّماواتِ، يَسوعُ ابنُ اللهِ، فلنَتَمَسَّك بِالاعتِراف. لأنَّ لَيسَ لَنا رَئيسُ كَهَنَةٍ غَيرُ قادِرٍ أَن يَرثِيَ لأوَهانِنا، بَل مُجَرَّب في كُلِّ شَيءٍ مِثلَنا، ما خَلا الخَطيئَة. فَلنُقبِل إذَن بِثِقَةٍ، إلى عَرشِ النِّعمَةِ، لِنَنالَ رَحمَةً، وَنَجِدَ ثِقَةً لِلإغاثَةِ في أَوانِها. فَإنَّ كُلَّ رَئيسِ كَهَنَةٍ مُتَّخَذٍ مِنَ النّاسِ، يُقامُ لأجَلِ النّاسِ فيما هُوَ للهِ، لِيُقَرِّبَ تَقادِمَ وَذَبائِحَ عَنِ الخَطايا، في إمكانِهِ أَن يُشفِقَ عَلى الّذينَ يَجهَلونَ وَيَضِلّونَ، لِكَونِهِ هُوَ أَيضًا مُتَلَبِّسًا بِالضُّعف. وَلِهَذا يَجِبُ عَلَيهِ أَن يُقَرِّبَ عَنِ الخَطايا لأجَلِ نَفسِهِ كَما يُقَرِّبُ لأجَلِ الشَّعب. وَلَيسَ أَحَد يَأخُذُ لِنَفسِهِ الكَرامَةَ، بَل مَن دَعاهُ اللهُ كَما دَعا هَرون. كَذَلِكَ الـمَسيحُ، لَم يُمَجِّد نَفسَهُ لِيَصيرَ رَئيسَ كَهَنَةٍ، بَل الّذي قالَ لَهُ أَنتَ ابني وَأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ. كَما يَقولُ في مَوضِعٍ آخَرَ، أَنتَ كاهِن إلى الأبَدِ عَلى رُتبَةِ مَلكيصادَق.
الإنجيل (مر 8: 34- 38، 9: 1)
قالَ الرَّبُّ، مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني فَليَكفُر بِنَفسِهِ وَيَحمِل صَليبَهُ وَيَتبَعني، لأنَّ مَن أَرادَ أَن يُخَلِّصَ نَفسَهُ يُهلِكُها، وَمَن أَهلَكَ نَفسَهُ مِن أَجلي وَمِن أَجلِ الإنجيلِ يُخَلِّصُها. فَإنَّهُ ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وَخَسِرَ نَفسَهُ؟ أَم ماذا يُعطِي الإنسانُ فِداءً عَن نَفسِهِ. لأنَّ مَن يَستَحي بي وَبِكَلامي في هَذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئِ، يَستَحي بِهِ ابنُ البَشَرِ مَتى أَتى في مَجدِ أَبيهِ مَعَ الـمَلائِكَةِ القِدّيسين. وَقالَ لَهُم، الحَقَّ أَقولُ لَكُم، إنَّ قَومًا مِنَ القائِمينَ هَهُنا لا يَذوقونَ الـمَوتَ حَتّى يَرَوا مَلَكوتَ اللهِ قَد أَتى بِقُوَّة.
حول الإنجيل
وضعت الكنيسة الصَّليب في وسط الصَّوم كي تنبِّهنا أنَّ الصَّليب هو محور حياتنا، ومن دونه لا أحد يخلُص. ونلاحظ أيضًا في الكتاب المقدَّس بأنّ اختيار الرَّبِّ يسوع للرُّسُل لم يكن على قاعدة وضعهم الاجتماعيّ المميَّز ولا على أيَّة ميزة تمتَّعوا بها إنْ كان مِنْ قوّة أو غنى أو مجد، إنّما أتى اختياره لهم على أساس أنَّهم هم أكثر مَنْ تفاعل مع وصاياه وتعاليمه، وأكثر مَنْ سعى في تطبيق الوصيَّة القائلة: "مَن أراد أن يتبعني فليُنكِرْ نفسَه ويحمل صليبَه ويتبعني"، وعليه، حملوا هم صليبهم الخاص وتبعوه، ليس هم فقط، لكن كلّ من تبع المسيح منذ نشأة الكنيسة، إلى يومنا هذا؛ طبعًا لم يقصد الرَّبّ أنَّه يجب على الإنسان أن يسعى إلى عذاب نفسه أو قهرها ويُماثل حياة المسيح كما هي، مثلما فعل القدِّيس فرنسيس الأسيزيّ عند الغرب حيث طبّق الآية، السَّابق ذكرها، بحرفيَّتها، فأخذ يقلّد المسيح من حيث عذباته وطريقة حياته وحتّى قلّده بعدد تلاميذه وطريقة إرساله لرسله إثنين إثنين، وبل أكثر من ذلك، كان لديه رغبة شديدة أن يتحوَّل إلى المسيح، ويُعاني كما المسيح. بالتَّأكيد لا يطلب الله ولا يفرح بعذاب الإنسان؛ "أمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَل" (يو 10: 10)، لكنّ الخطيئة هي الَّتي تعذّب الإنسان، والله يريده حرًّا منها، فصليبنا هو جهادنا ضِدَّ الأهواء بمعونة المسيح لنصير أحرارً منها وبسلام، أمّا تلك الأهواء الَّتي تعذب الإنسان فهي: الأنانيّة، المجد الباطل، التَّسلُّط، حبّ الذّات، حبّ المال، الكره، الحقد، البخل، الخوف، الأفكار الشَّهوانيّة، الشَّراهة، الإدانة، النَّميمة، التَّذمُّر، الكسل، اليأس، صِغَر النَّفس (الجبن)... فمن دون جهادنا ضدّ الأهواء، لا قيامة لنا مع المسيح، وهذا الجهاد يستمرّ حتّى مماتنا. أمّا ترتيب الآحاد الَّتي وضعته لنا الكنيسة في الصَّوم الكبير، هي لتشجعينا أن نجاهد الجهاد الحسن، بواسطة الإيمان الحسن، ضدّ الخطيئة، كي نصل مع المسيح، بالصَّليب، إلى نور القيامة. فالصَّليب يتضمَّن معنيَيْن أساسيَّيْن: الأوّل هو جهاد الإنسان ضدَّ أهوائه لتصحيح علاقته مع الله لأنّه "لا شركة للنُّور مع الظُّلمة" كما يقول بولس الرَّسول، والثَّاني هي تحمّل الآخر من دون تذمُّر ومحبَّته من دون شرط.
خلاصة القَوْل أنَّ الخلاص والقيامة مع المسيح، يكمُنان في حمل صليبنا الخاص ونعني بذلك جهادنا الرُّوحيّ ضِدَّ أهوائنا إلى ساعة رقادنا وجهادنا في تحمّل الآخر ومحبّتنا له، أيّا يكن الآخَر، وهكذا بالصَّليب يصبح إيماننا العامل بالمحبَّة مَقبُولًا عند الله.
فعل الصَّليب في حياتنا
إنَّ صلب الرَّبّ يسوع هو أهمّ حدث في تاريخ الإنسان. كان الإنسان نظرًا لواقعه محكومًا بالزَّوال، لأنّ خطيئته تفاقمت إلى أقصى حَدّ، ولم يَعُدْ بِمَقدُورِهِ إنقاذ نفسه من حتميّة الموت والفناء. أدرك الإنسان متأخِّرًا، أنَّ حياته الحقّة والدَّائمة يستمدُّها بالكامل مِنْ ذات الله، وليس مِنْ مكوِّنات العالم ومادَّتِه، لكنَّه عجز عن العودة إلى حضرته الإلهيَّة ليَستعيد حياته، وبسبب تفاقم خطاياه أُغلقت أمامه كلّ السُّبُل، ونَمَتْ هُوَّةٌ سحيقة يستحيل عليه اجتيازها بقدراته المحدودة. إزاء هذا الواقع كان الفعل الحاسم للرّبّ يسوع الَّذي تجسّد لأجل تحقيق مشيئة الله الآب ومقاصِدِه، وبمٌقدِّمتها تحقيق ملكوت الله، وهذا الملكوت بحسب الإعلان الإلهيّ في العهد القديم هو سُكْنى الله بين شعبه القدُّوس والبارّ. يجدر القَوْل أنّه مُقابِل صَلابة قلب الإنسان وعناده وكفره وخيانته وكبريائه، كان بمقدور الرَّبّ يسوع إتمام مشيئة الله وتحقيق مقاصده بمعزل عن معايير العهد القديم، مهملًا البشر وتاركًا إيَّاهُم لمَصيرهم المَحتُوم. لكنّ الرَّبَّ شاء، لمحبَّته المجانيّة اللّامتناهية، أن يمنح الإنسان الفرصة لِيَصير مَقبولًا في المَلكوت، وليعود إلى الحضرة الإلهيَّة ويستمدَّ الحياة الأبديّة من ذات الله. قرار الرَّبّ هذا حتّم عليه أن يحتمل عاقبة خطايا الإنسان وأن يموت هو بذاته عوض موت النّاس أجمعين. لم يكن مِنْ مَفَرٍّ من الصَّليب، لأنّ به وحده يستطيع الرَّبّ يسوع أن يجمع بين تحقيق مشيئة الله من جهة وخلاص الإنسان من جهةٍ أخرى. بَرْهَن بالصَّليب طاعته المُطلَقَة لله الآب فأتمّ البرّ وحقّق كمال القداسة ودشّن الملكوت، كما حمل به عاقبة خطايا البشر فصار الذَّبيحة الأبديّة والفدية الكاملة الَّتي بها غُفرت خطايا جميع النّاس. بصليب الرَّبّ يولد الإنسان من جديد، نقيًّا مقدّسًا، أهلًا لأن ينضمّ إلى جماعة القدِّيسن الَّذين يؤلّفون هيكل الله الحَيّ في ملكوته. هذا فعل الصَّليب في حياتنا، الَّذي إذ نعزّزه من جهتنا بالتَّوبة الصّادِقَة، وطاعة الرَّبّ يسوع، والحياة بحسب إنجيله وكلمته وإرشادته، يضمّنا بنعمة هذا الفعل إلى ملكوته وننال الحياة الأبديّة. إنَّ الصَّليب هو العمل الخلاصيّ بامتياز والتَّعبير الصَّادق عن ذروة محبّة الله للإنسان، هو النَّصر الأعظم في تاريخنا البشريّ، ويسوع وحده هو بطل هذا النَّصر وليس نحن. هو انتصر على خطيئتنا وموتنا لأجلنا، وأهدانا بالكامل فعل هذا النَّصر. يبقى أمامنا هذا التّحدّي: هل لدينا الاستعداد اليوم لاتباع الرَّبّ يسوع والشَّهادة لصليبه؟ أم نلازم خطايانا ونهمل الإيمان به ونخسر بالكامل فعل الصَّليب في حياتنا؟