Menu Close
kanisati170324

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد 17 آذار 2024            

العدد 11

أحد مرفع الجبن (الغفران)

اللّحن 8- الإيوثينا 8

أعياد الأسبوع: *17: أحد مرفع الجبن (الغفران)، القدّيس ألكسيوس رجل الله *18: بدء الصَّوْم الكبير، القدّيس كيرلّلس رئيس أساقفة أورشليم *19: الشّهداء خريسنثوس وداريَّا ورفقتهما *20: الآباء الـ 20 المقتولين في دير القدِّيس سابا *21: القدّيس يعقوب الأسقف المُعترف، البارّ سرابيون *22: المديح الأوّل، الشّهيد باسيليوس كاهن كنيسة أنقرة *23: تذكار القدّيس العظيم في الشُّهداء ثيوذوروس التّيروني (عجيبة القمح المسلوق)، الشّهيد نيكن وتلاميذه الـ 199 المستشهدين معه.

كلمة الرّاعي 

مسيرة الصَّوْم

"فَلْنَدَعْ عَنَّا أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسَ أَسْلِحَةَ النُّورِ" (رو 12: 13)

ها نحن نَلِجُ ميدان الصَّوْم وحلبة الصِّراع الرُّوحيّ الدّاخليَّة. معركتنا في القلب، و "مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12). أمامنا مرحلة جِدّ وتعب، جهاد ونَصَب لكي نتطهَّر ونتقدَّس. غاية صومنا قداستنا، وقداستنا تأتي من طهارة قلوبنا، وطهارة قلوبنا نقتنيها بنعمة الله في توبتنا الحثيثة والعميقة الّتي بالدّموع...

لا نتلهَّينَّ، يا أحبّة، بصوم الأطعمة فنقضي أوقاتنا نفكِّر ماذا نأكل وماذا نشرب، فلنحاول أن يكون مأكولنا ومشروبنا بسيطًا، وبالمقابل فلنُشدِّد على صوم الفكر والقلب عن الدّينونة والحقد والكره والكبرياء والأنانيَّة ورفض الآخَر لأنّ هذه هي مصدر تجاربنا الرُّوحِيَّة والنَّفسِيَّة والجسديَّة والشَّهوانيَّة. إنْ قطعنا هذه تصير مشاغل الأكل والشِّرب قليلة ومع الصّلاة والقراءة الرُّوحيَّة يبدأ الفكر والقلب يمتلآن سلامًا والجسد يهدأ.

الصَّوْم الكبير المقدَّس هو فرصة مهمّة جدًّا في حياتنا الرُّوحيَّة لأنّه زمن مبارك من كلّ جوانبه، إذ ترتِّب فيه الكنيسة الصَّلوات المختصّة الخشوعيَّة وتعود بنا إلى مسيرة الله مع الإنسان منذ البدء لتصل بنا إلى زمن الخلاص وفرح القيامة.

*          *          *

الإنسان نفسٌ وجسد، حين يهدأ الجسد تتحرَّك الرُّوح وحين يتحرَّك الجسد تَخْبُو الرُّوح، "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ" (غل 5: 17). مسيرة الصَّوْم هي جهاد لكي نعود إلى التّوازن والانسجام والوَحدة بين الجسد والرُّوح بواسطة النّعمة الإلهيَّة. درب الصَّوْم هو العودة إلى الذّات والدُّخول إلى القلب من خلال الهَدْأة والصَّلاة والتَّأمُّل، "لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: 'بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ'. فَلَمْ تشاؤوا" (إش 30: 15).

على الإنسان أن يُحدِّد أهدافه ويعرف طريقه لكي يكون لصومه منفعة وثمرة. هذه فترة مناسبة لنا لكي نهدأ، نخفِّف انشغالاتنا ونتفرَّغ أكثر إلى الصّلاة والتَّوبة، إلى فحص الضَّمير مِنْ خلال القدِّيسين وحياتهم وتعاليمهم، وإلى الدُّخول إلى أعماق نفوسنا عبر التَّأمُّل في الكلمة الإلهيَّة (الكتاب المقدَّس) وتخصيص وقت للصَّلاة القلبيَّة: "ربّي يسوع المسيح ارحمني" ...

الشِّرّير لن يتركنا، ولن يجعل صومنا سهلًا، سوف نُجرَّب بأمور كثيرة مثل روح التَّناقض مع الآخَرين، النَّميمة، روح الدَّينونة، الشَّوْق إلى المآكل، الشَّهوات الجسديَّة، الخوف والاضطراب بسبب الأحوال الرَّاهنة، إلخ. لكن علينا أن نبقى ثابتين في صلاتنا وصومنا وحفظ حواسِّنا وأفكارنا. كيف نستطيع فعل هذا كلّه؟ حين تكون عيوننا إلى قلوبنا وخطايانا وليس إلى عيوب الآخَرين وزلاّتهم...

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، ها زمن الرّبيع الرّوحيّ يأتي إلينا فهل نأتي نحن إليه؟!... لا تزهر النّفوس ما لم تُنقَّى من الشَّوائب الرُّوحيَّة وما لم تُفلَح القلوب لنقب الأرض وتجديدها وإدخال الرُّوح فيها. العمليَّة موجعة وشافية، محزنة ومفرحة، متعبة ومريحة... علينا أن نحرِّك أنفسنا أي أن نخرج من أنفسنا ومن أفكارنا ومن عاداتنا وروتيننا: "لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (2 كو 6: 17 – 18). أن نعتزل يعني أن ندخل إلى الصَّحراء بعيدًا عن العالم المحيط بنا، أن نحيا حياة بسيطة ونبتعد عن كلّ الملهيات لنخصِّص وقتها لبنيان نفوسنا وتوطيد سلامنا من خلال خبرة الصَّلاة المكثّفة الشَّخصيّة والقراءات الرُّوحيَّة.

لا يفقه أحد معنى خبرة النِّعْمَة إن لم يختبرها، وليختبرها الإنسان عليه أن يسلك الطّريق المؤدّي إلى اقتنائها، وهذا الطّريق يبدأ بالغفران والاستغفار بالتَّسامح مع الآخَرين والمسامحة، وهذا مصدره روح التّوبة أي معرفة الذّات ومعرفة خطايانا الشَّخصيّة وليس خطايا الآخَرين وتوبتنا عن خطايانا وليس تبريرها على حساب الآخَرين.

كثيرون، ربّما، لن يستطيعوا أن يسلكوا درب التّوبة لأنّهم لا يريدون كونهم لا يعرفون خطاياهم لأنّ مقاييسهم للخطيئة ذاتيَّة عالميَّة وليست روحيَّة كتابيّة آبائيَّة. من هنا أهمّيّة عِشْرَة الآباء في تعاليمهم وخبراتهم لكي نتعلّم منهم كيف لنا أن نعيش إيماننا المسيحيّ الأرثوذكسيّ باستقامة قلب. الاستقامة الدَّاخليَّة أي الشَّفافيَّة مع الذّات في تقويم أفكارها وأقوالها وأعمالها بناء على كلمة الرّبّ هي الأساس لسلوك درب الصَّوْم الحقيقيّ الَّذي في نهايته نترجّى الحياة الجديدة واختبار فرح القيامة بتجديد أذهاننا وقلوبنا وحياتنا وعلاقتنا مع الآخَرين والخليقة والوجود...

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

      متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّامن)

إِنْحَدَرْتَ مِنَ العُلُوِّ يَا مُتَحَنِّن، وَقَبِلْتَ الدَّفْنَ ذَا الثَّلاثَةِ الأَيَّام لِكَيْ تُعْتِقَنَا مِنَ الآلام. فَيَا حَيَاتَنَا وَقِيَامَتَنَا، يَا رَبُّ الـمَجْدُ لَك.

قنداق التّريودي (باللّحن السّادس)

أَيُّهَا الهَادِي إِلَى الحِكْمَةِ، وَالرَّازِقُ الفَهْمَ وَالفِطْنَةَ، وَالـمُؤَدِّبُ الجُهَّالَ، وَالعَاضِدُ الـمَسَاكِينَ، شَدِّدْ قَلْبِي وَامْنَحْهُ فَهْمًا أَيُّهَا السَّيِّدُ، وَأَعْطِنِي كَلِمَةً يَا كَلِمَةَ الآبِ، فَهَا إِنِّي لا أَمْنَعُ شَفَتَيَّ مِنَ الهُتَافِ إِلَيْكَ: يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي أَنَا الوَاقِعَ.

الرّسالة (رو 13: 11- 14، 14: 1- 4)

يَا إِخْوَةُ، إِنَّ خَلاصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِـمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَاقْتَرَبَ النَّهَارُ. فَلْنَدَعْ عَنَّا أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسَ أَسْلِحَةَ النُّورِ. لِنَسْلُكَنَّ سُلُوكًا لائِقًا كَمَا فِي النَّهَارِ، لا بِالقُصُوفِ وَالسِّكْرِ، وَلا بِالـمَضَاجِعِ وَالعَهَرَ، وَلا بِالخِصَامِ وَالحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الـمَسِيحَ، وَلا تَهْتَمُّوا بِأَجْسَادِكُمْ لِقَضَاءِ شَهَوَاتِهَا. مَنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ فَاتَّخِذُوهُ بِغَيْرِ مُبَاحَثَةٍ فِي الآرَاءِ. مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ شَيْءٍ، أَمَّا الضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولًا. فَلا يَزْدَرِ الَّذِي يَأْكُلُ مَنْ لا يَأْكُلُ، وَلا يَدِنَ الَّذِي لا يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ، فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَهُ. مَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ عَبْدًا أَجْنَبِيًّا؟ إِنَّهُ لِمَوْلاهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. لَكِنَّهُ سَيَثْبُتُ لِأَنَّ اللهَ قَادِرُ عَلَى أَنْ يُثَبِّتَهُ.

الإنجيل (مت 6: 14- 21)

قَالَ الرَّبُّ: إِنْ غَفَرْتُـمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِـهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ أَيضًا. وَإِنْ لَـمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِـهِمْ فَأَبُوكُمْ أَيْضًا لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ زَلَّاتِكُمْ. وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا مُعَبِّسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّـهُمْ يُنَكِّرونَ وُجُوهَهُمْ لِيَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّـهُمْ قَدْ أَخَذُوا أَجْرَهُمْ. أَمَّا أَنْتَ فَإِذَا صُمْتَ فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِئَلَّا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الخِفْيَةِ. وَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الخِفْيَةِ يُـجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالآكِلَةُ وَيَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ، لَكِنْ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلا آكِلَةٌ وَلاَ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، لأَنَّهُ حَيْثُ تَكُونُ كُنُوزُكُم هُنَاكَ تَكُونُ قُلُوبُكُم.

حول الرّسالة

تبدأ الرِّسالة اليوم بالتَّنبيه إلى ضرورة التّخلّي عن "أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ" أي حالة الخطيئة، وتنتهي بضرورة الانتباه إلى موضوع دينونة الآخَرين الَّتي قد تكون سببًا للموت.

التَّكوين البشريّ للإنسان يبحث دوْمًا عن إرضاء الجسد وطموحاته. الملذّات هي وُقود الخطيئة وتقتل الجسد لأنَّها تُلهي الإنسان عن الله. ماذا يبتغي الجسد؟ "الْبَطَر وَالسُّكْر، الْمَضَاجع وَالْعَهَر، الْخِصَامِ وَالْحَسَدِ"، هذه هي ميول الإنسان الخاطئة. هذه هي حالة آدم الخاطئ الَّذي لم يتذكّر كلام الله وسعى في إثرِ إرادته الشَّخصيّة ومعتقداته وأفكاره وأفكار الآخَرين. الله أعطانا سبيل الخلاص حيث يقول القدّيس بولس الرَّسول: "الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ"، لذا مِنْ هذه الآية ندرك أنَّ الجسدَ لا يمكن أن يكون أمام خيارين بل أماه خيار واحد وهو القداسة.

الوقت يمرُّ بسرعة ولا نستطيع أن نعود بالوقت ثانيةً إلى الوراء كي نصحِّح الخطأ. كلُّ لحظَةٍ من حياتنا يجب أن تكون للمسيح عالمين أنّ أعمالنا تُظْهِر مدى محبَّتنا للمسيح. لا يجب التَّلَهّي بما هو ليس لنا أيّ الحماقات، الّتي تعدّدها هذه الرِّسالة، لأنَّه يأتي وقتٌ لا يعلمه أحد يكون فيه وقت الانتقال إلى الحياة الثّانية، وعندها لا نستطيع أنْ نفعل أيّ شيء لنخلِّص أنفسنا، وعندها شهوات العالم لن تنفعنا بل ستكون سبب انفصالنا عن الله، لذا تتميم الوصايا هو أن نكون بعيدين في كلِّ لحظةٍ عن الشَّرّ ومُلتَصِقين بالله.

هذه هي فترة التَّهيئة للصَّوم، والمسيحيّ هو من ينظر لنفسه ويدينها ويوجِّه ناظره نحو المسيح المصلوب ولا يتلهّى بخطايا النّاس. وجهاده ضدَّ نفسه والوقت وسلاطين هذا العالم، فلا يجوز لنا أن نقيس أنفسنا بالآخَرين، لذا لا يمكن لنا ندين أو نخاصِم بل علينا قبول الكلّ بمحبَّةٍ وتواضع وبساطة حتّى يقبلنا الله. وعليه، حتّى نكون على صورة الَّذي دعانا إلى الملكوت علينا أن نكون حاملين سِمات الرَّبِّ يسوع المسيح فنكرّم بالبنوّة والأخوّة الحقيقيَّة. "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا... الَّذي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَالله" (أف 5) ...

الصَّوْم الكلّيّ

لقد أوصى الله آدمَ بوصيّة الصِّيام كطريقةِ حياةٍ "مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا" (تك 2: 16-17). لكنَّ آدم حلَّ الصَّوْم وسقط، واختار طريقةً مُغايرة للحياة، مُفضِّلًا حياة الحواسّ على الحياة مع الله! فحوّل حركاته الدّاخليّة (عشقه واهتمامه) من الله إلى المادَّة. فجاء الصَّوْم في الحياة الكنسيّة كـ "دواء" وطريقة علاج وشفاء.

الصَّوْم له وَجْهان جسَديّ وروحيّ: الوَجْه الجَسَدِيّ هو أنْ يَلْجُم الإنسان نفسَه عن الرَّذائل ويتحكَّم بغرائزه، ويشمل الفَم والعَيْن والأذن والقَدَمَيْن واليَدَيْن وكلُّ أعضاء الجسم (القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفَم). أمّا الوَجْه الرُّوحيّ للصَّوْم فهو الامتناع عن الخطيئة. يقول القدِّيس يوحنّا السِّلميّ في كتابه السُّلَّم إلى السَّماء: "الصَّوْم هو كَبْح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشَّرّيرة وتحرُّر من التَّخيُّلات المذنبة...".

كما يُحدِّد بولس في رسالته إلى أهل غلاطية أعمال الجسد وأعمال الرُّوح كالآتي: "أعمال الجسد ظاهرة وهي الزِّنى، العهارة، النَّجاسَة، الدَّعارة، عبادةُ الأوثان، السِّحْر، العداوة، الخصام، الغَيْرة، السّخط، التَّحزّب، الشِّقاق، بِدْعَة، الحَسَد، القَتِل، السُّكر، البَطَر… أمّا ثمار الرُّوح فهي المَحبَّة والفرحُ والسَّلام وطولُ الأناة واللُّطفُ والصَّلاح والإيمان والوداعة والتَّعفُّف" (غلا 5: 19–23).

الصَّوْم يجب أن يقترن بالصَّلاة والصَّدَقة هو (vitamin ص) صَوْم، صلاة وصدقة. هو امتلاء مِنَ المحبَّة لله وللنَّاس، وزمن انفتاح القلب واليد على الإخوة الفقراء والمرضى والمُحتاجين. إنَّ ما يوفّره كلٌّ مِنّا خلال صومه هو للتَّصدُّق به.

دعا الرَّبُّ يسوع المسيح الَّذين يَرْغَبون بالصَّوْم أنّ لا يكونوا "عابسين كالمُرائين، فإنَّهم يُغيِّرون وُجوهَهُم لكي يَظهروا للنّاس صائمين. الحَقَّ أقولُ لكم: إنَّهم قد استَوْفوا أجْرَهم، وأمّا أنت فمتى صُمْتَ فادْهَن رأسَكَ واغسل وجهك، لكي لا تَظْهَر للنَّاس صائمًا، بل لأبيك الَّذي في الخَفاء. فأبوك الَّذي يرى في الخفاء يُجازيك علانيةً" (متّى 6: 16-18).

أخيرًا ينصَح القدّيس اسحق السُّريانيّ بالصَّوْم الدّائم وضبط الذَّات لينجُم عن ذلك: إخضاع الحواسّ وضبطها، يقظة الذّهن وتذكّر الله، وداعة الأفكار واستئناس الأهواء الشَّرسة، استنارة حركات الذّهن، التّأمّلات السّامية، الدُّموع المدرارة، ذكر الموت، والعفّة.

أقوال آبائيّة عن الصَّوْم الكبير

+ إنَّ الصَّوْم الحقيقيّ هو سجن الرَّذائل أي ضبط اللِّسان وإمساك الغضب وقهر الشَّهوات. (القدِّيس باسيليوس الكبير)

+ في الصَّوْم ادخل إلى قلبك وافحصه بدقة لتعرف بأيّ أفكار وأوجاع هو يرتبط. (القدِّيس ثيوفان الحبيس).

+ صوم اللِّسان خَيْر من صوم الفم وصوم القلب أخيَر من الاثنين. (القدِّيس إسحق السّريانيّ).

+ إذا تناولت الكأس لتشرب فاذكر الخل والمرارة الَّتي شربها يسوع من أجلك وبذلك تضبط نفسك. (القدِّيس يوحنّا الدّمشقيّ).

+ اِعلَم يقينًا أنّ كلّ إنسان يأكل ويشرب بلا ضابط ويحب أباطيل هذا العالم فإنَّه لا يستطيع أن ينال شيئًا مِنَ الصَّلاح بل ولن يدركه، لكنّه يخدع نفسه. (القدِّيس موسى الأسود).