Menu Close

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

أمّنا القدّيسة البارّة بهيجة (أفروسيني) الشّهداء الدّمشقيّون بولس وزوجته تاتا وأولادهما الأربعة سافينيانوس ومكسيميانوس وأبجر (روفوس) ونبيل (أفجانيوس) القدّيس البار بفنوتيوس الشّهداء بفنوتيوس النّاسك ورفقته الـ 546 أبونا الجليل في القدّيسين باسيليوس الثّاني الأنطاكيّ* القدّيس البارّ سرجيوس رادونيج الرّوسي * القدّيسة البارّة أفروسيني سوزدال * القدّيسة البارّة دوسيثا مغاور كييف * أبونا الجليل في القدّيسين جرمانوس أسقف قازان * الجديد في الشّهداء الرّوس نقولا روزوف تذكار الزّلزلة في القسطنطينية وأعجوبة الـ “تريصاجيون”.

*        *        *

✤القدّيس البار سرجيوس الذي من رادونيج، الصانع العجائب والمحامي عن روسيا ✤(1314 – 1392)

    هو أحبُّ القدّيسين إلى قلب الشّعب الرّوسيّ بلا منازع. وقد كتب سيرته أحد تلاميذه، أبيفانيوس، الّذي أكرمته الكنيسة الرّوسيّة، فيما بعد، قدّيسًا.

نشأته

        وُلد القدّيس سرجيوس في ولاية روستوف الّتي تشكّل، حاليًّا، جزءًا من مقاطعة إيفانوفو، على بعد حوالي مئتي ميل، شمالي شرقي موسكو. وهو الصّبيّ الثّاني لكيرللس ومريم اللّذين أنجبا ثلاثة أولاد ذكور، وكانا بارّين، سالكَين في مخافة الله. ويبدو أنّ العائلة عاشت في بحبوحة، ردحًا من الزّمان، إلى أن اضطرّتها ظروف محلّيّة إلى التّخلّي عن ملكيّتها ومغادرة روستوف إلى قرية رادونيج الّتي دعي سرجيوس باسمها، وهي على بعد تسعة أميال من دير الثّالوث القدّوس الّذي أسّسه، والقائم حاليًّا في زاكورسك، في مقاطعة موسكو.

        اسم سرجيوس في المعموديّة كان برثولماوس. وقد اتّخذ اسم سرجيوس يوم اقتبل الإسكيم الرّهبانيّ في عيد القدّيسَيْن سرجيوس وباخوس، الموافق السّابع من شهر تشرين الأوّل، وهو في الثّالثة والعشرين من العمر.

        كان روح الرّبّ على سرجيوس، وهو بَعد في الرّحم. مذ ذاك أبدى علائم على كونه إناءً مختارًا للثّالوث القدّوس. يُحكى، في هذا السّياق، أنّ أمّه حضرت يومًا من أيام الآحاد، خدمة القدّاس الإلهيّ، وفي أثنائها خرجت من أحشائها أصوات غريبة كأنّها هتاف، مرّة عندما كان الكاهن يقرأ الإنجيل، وأخرى قبل الشّاروبيكون، وثالثة عندما هتف الكاهن: “لنصغ! القدسات للقدّيسين“. وقد أثّرت حوادث كهذه ونبوءات نطق بها بعض الأتقياء بشأنه في موقف والديه منه فاعتبرا نفسيهما مؤتمنين على إناء مختار لله، وصارت أمّه تلحظ نفسها بدقّة، لجهّة السّيرة والأصوام، حتّى لا يتلوّث الجنين في أحشائها بخطيئة ترتكبها أو تقصير في محبّة الله يبدر عنها.

        ومن الدّلائل الأخرى على عناية الله الخاصّة بعبده سرجيوس ما حدث له وهو في السّابعة من عمره. يومها عانى الصّبيّ من صُعوبات في التّعلّم، إذ بدا أنّه غليظ الذّهن، بطيء الفهم، قليل التّركيز. وقد سبّب له ذلك متاعب جمّة لأنّ معلّمه كان يعاقبه ورفاقه يسخرون منه ووالديه يوبّخانه ظنًّا منهم أنّه كسول. ومع أنّ الصّبيّ كان يبذل كل ما في وسعه فإنّه لم يكن ليحقّق تقدّمًا يُذكَر، لا في القراءة ولا في الكتابة. خرج مرّة إلى الحقل حزينًا يبحث عن جياد أبيه، فإذا به يلقى في الطريق، تحت سنديانة، راهبًا قائمًا في الصّلاة يبكي. فاقترب منه وسجد أمامه، إلى الأرض، كما جرت العادة، وانتظر. وانتهى الرّاهب من الصّلاة وتطلّع إلى الصّبيّ ِبعَين الرّوح فعرف أنّه إناء مختار لله فقال له: “تعال يا بنيّ!” فتقدّم الصّبيّ فباركه الرّاهب وقبّله وسأله: “ماذا تريد يا بنيّ؟ هل تبحث عن شيء؟” فأجاب: “يا أبانا، إنّ ذهني غليظ ولا أحفظ ممّا أتعلّمه شيئًا، ولا أعرف الكتابة. أشتاق إلى قراءة الكتاب المقدّس ولا أعرف القراءة. فصلِّ من أجلي إلى الله“. قال هذا وبكى. فرفع الشّيخ عينيه ويديه إلى السّماء وصلّى متنهدًا، في روحه، ثمّ قال: “آمين!” ومدّ يده وأخرج من كيسه قطعة من القربان وأعطاها للصّبيّ قائلًا: “كلْ هذه، يا بنيّ! فهذه علامة نعمة الله وعطيّته لك لتفهم الكتاب المقدّس…“. ثمّ أضاف: “إن كنت تؤمن يا بنيّ فسترى أعظم من هذا. أما بشأن القراءة والكتابة فلا تكن حزينًا لأنّ الله قد أعطاك، منذ الآن، أن تفهم الكتب أكثر من أخويك ورفاقك“. قال هذا وهمّ بالانصراف فخرّ الصّبيّ عند رجليه يرجوه أن يأتي معه إلى البيت قائلًا: “إنّ أبي وأمّي يحبّان كثيرًا مَن هم مثلك يا أبانا!” فجاء الإثنان إلى المنزل واستقبل والدا الصّبيّ الرّاهب الضّيف استقبالًا طيّبًا ودعياه إلى تناول الطّعام فقبل. ولكنْ، دخل الجميع أوّلًا إلى الكنيسةX لإداء فريضة السّاعات. افتتح الرّاهب الخدمة ثمّ طلب من الصّبيّ أن يقرأ المزامير، فارتبك سرجيوس وقال إنّه لا يعرف القراءة. فأصرّ الرّاهب فتناول الصّبيّ الكتاب وراح يقرأ منه بوضوح وبلا خطأ أو تلعثم، فيما وقف الحاضرون مندهشين لا يصدّقون أسماعهم. وانتهت الصّلاة وتناول الرّاهب طعام الغداء. وقبل أن يغادر قال عن الصّبيّ إنّه سيكون خادمًا للثّالوث القدّوس وسيأتي بكثيرين إلى معرفة الوصايا الإلهيّة. منذ ذلك الحين صار بمقدور الصّبيّ أن يقرأ الكتب. وقد سلك في الطّاعة لوالديه، وانصرف، على غير عادة أترابه، إلى شؤون العبادة بغيرة وبهجة قلب، صلوات وأصوامًا وأسهارًا وقراءات.

سرجيوس راهبًا

        ونَما سرجيوس في النّعمة والقامة أمام الله والنّاس. ولما أبدى رغبة في التّرهّب أجابه والده: “اصطبر علينا قليلاً، يا بنيّ، فأنا وأمّك قد شخنا ونحن مريضان، وليس لنا من مُعين سواك…“. قال كيرللس ذلك لأنّ ولديه الآخرين كانا قد تزوّجا، فقعد سرجيوس صابرًا إلى أن افتقد الرّبّ الإله والديه وأخذهما إليه. فقام، إذ ذاك، إلى أخيه الأكبر استفانوس الّذي كان قد ترمّل وأقنعه بالسّلوك سويّة في طريق الحياة الملائكيّة. ثمّ عمد الأخَوان إلى شقّ طريقهما عبر الغابات الكثيفة العذراء، بحثًا عن مكان يلائم ما ينشدانه. وأخيرًا حطّا رحالهما في بقعة منعزلة وشرعا، للحال، ببناء كنيسة وبضع قلال. وقد كرّسا الكنيسة للثّالوث القدّوس. ولكن لم يشأ استفانوس البقاء بجانب أخيه لأنّ وطأة العزلة والعوز في ذلك الموضع كانت ثقيلة عليه فغادر، بعد فترة وجيزة، إلى دير الظهور الإلهيّ في موسكو، وبقي سرجيوس لنسكه وحيدًا.

        ثمّ إنّ سرجيوس أعدّ نفسه لاقتبال الإسكيم الرّهبانيّ. ولما آن الأوان هداه ملاك الرّبّ إلى راهب كاهن له رتبة رئيس دير شرطنه وزوّده بالبركة والتّوجيهات وانصرف عنه.

صعوبات ومتاعب

        لا أحد يعرف تمامًا كيف أمضى سرجيوس سنوات انفراده ولا كم كان عددها، ولعلّها سنتان أو ثلاث، عرف خلالها منتهى الفقر. كما كانت تحتفّ به وتتهدّده حيوانات البريّة، ذئابًا تزأر وتعوي ودببًا تأتيه جائعة تبحث عن فريسة. وبقوّة الصّلاة ونعمة الله صمد وثبت حتّى إنّ قصصًا تُحكى عن مؤانسات كانت له وبعض هذه الحيوانات نظير آدم في الجنّة قبل السّقوط.

        إلى ذلك، لم تترك الأبالسة حيلة إلاّ استعملتها لتُخرجه من منسكه فلم تفلح. جاءته، مرّة، عبر جدران الكنيسة وهو يصلّي. اندفعت صوبه وادة لو تدكّ الكنيسة والمكان كلّه إلى أساساته، وهي تَصرّ على رجل الله بأسنانها وتقول: “اترك هذا المكان لأنّك لا تستطيع أن تبقى فيه بعد اليوم! فها قد وجدناك، فأين تهرب من وجهنا؟! وأنت أنت مَن يهاجمنا! إذا لم تفرّ من هنا فسوف نمزّقك إرْبًا إرْبًا وستموت بأيدينا…“. ولما كان سلاح سرجيوس صلاته فقد هتف: “اللهمّ مَن ذا الّذي يُشبهك؟ لا تسكت يا الله ولا تصمت! لأنّه ها إنّ أعداءك يضجّون…“. (مزمور 82: 1 – 2). ثمّ أردف: “ليقم الله وليتبدّد أعداؤه وليهرب مبغضوه من قدّام وجهه. كما يبيد الدخان يبيدون. كما يذوب الشمع قدّام وجه النّار كذلك تهلك الأشرار من قدّام وجه الله. أما الصّدّيقون فيفرحون…”. (مزمور 67: 1 – 3). وحالما استجار سرجيوس بالسّيّد الإله تبدّدت الأبالسة كأنّها لم تكن فشكر الله على رحمته الغنيّة العظمى.

        هكذا أمضى سرجيوس سنواته الخصيبة الأولى ناسكًا يقاوم الخوف والضّيق والتّجارب بخوف الله، وينعم، من خلال الهدوء الجميل والإنصراف الكامل إلى ربّه، بحلاوات العِشرة الإلهيّة. هكذا تروّض على تخطّي نفسه إلى التّسليم الكامل لله وإلى الصّلاة المُستمرّة والنّظر في الإلهيّات.

اثنا عشر تلميذًا

        بعد ذلك بدأ العليّ يجتذب إلى سرجيوس الرّاغبين في الحياة الملائكيّة، فاجتمع حوله، خلال فترة قصيرة، اثنا عشر تلميذًا، استدعى لأجلهم، أوّل الأمر، ذاك الكاهن الّذي أعطاه الإسكيم ليكون لهم مرشدًا لأنّه قال إنّ ابتغاء الرّئاسة أصل لكلّ الشّرور. ولكن ما إن انقضى عام على هذا التّرتيب حتّى رقد الرّاهب واضطرّ سرجيوس إلى الرّضوخ لإلحاح الجماعة فصار عليها رئيسًا وكاهنًا.

        كان نمط الحياة في الجماعة، أوّل الأمر، إيديوريتميًا، أي فرديًّا مترابطًا، يتمتّع فيه كلّ من الرّهبان بقدر وافر من الإستقلال، ويكون هناك تناسق بينهم. لا يجتمعون إلّا مساء كلّ سبت في الكنيسة ليستمعوا إلى تعليم أبيهم، ثمّ يسبّحون ويحضرون القدّاس الإلهيّ ويتناولون الطّعام سويًّا صباح الأحد ثمّ ينصرفون.

        ومن أوّل الطّريق، اعتمد سرجيوس مَسرى محدّدًا في تعاطيه مع الإخوة. فكان يقوم، بعد صلاة المساء، بجولة سرّيّة عليهم لاستطلاع أحوالهم. فإن رأى أحد الإخوة مصلّيًا أو ساجدًا أو منشغلًا بعمل يدوي اغتبط وشكر الله لأجله. وإن سمع اثنين أو ثلاثة يتسامرون أو يتضاحكون حزن ونقر على الباب أو على النافذة وانصرف. ثمّ في الصّباح أرسل في طلبهم وأشار إلى ما فعلوه، تلميحًا لا تصريحًا. ووعظهم باللّطف والأمثال. فإن تحرّكت نفوسهم واعترفوا واستغفروا باركهم وصرفهم وإن تقسَّوا وعاندوا وتمرّدوا وبّخهم وعاقبهم. هكذا اعتاد الإخوة أن يخصّصوا ساعات اللّيل لله وحده. أمّا في النّهار فكانوا يحافظون على الصّمت ويعملون.

بركة محبّة الفقر

        وكان سرجيوس محبًّا للفقر لدرجة أنّه فرض على الجماعة نظامًا صارمًا حرّم بموجبه على أيّ منهم الإستعطاء، توخّيًا لاعتياد الرّاهب على إلقاء اعتماده على الرّبّ وانتظار خلاص إلهه بصمت. لهذا السّبب كان الفقر في الجماعة يشتدّ، أحيانًا، إلى أبعد الحدود. لا خبز ولا طحين ولا قمح ولا أيّ نوع من أنواع الحبوب، ولا حتّى خمر للقدّاس الإلهيّ ولا بخّور ولا شمع. وحدث، ذات مرّة، أنّ الإخوة تذمّروا على سرجيوس لأنّه لم يعد لديهم ما يأكلون فجاؤوا إليه قائلين: “ها نحن نموت جوعًا ولا تسمح لنا بأن نستعطي، فما حيلتنا؟! بِمَ نقتات؟! لقد مضت علينا أيّام لم نذُق خلالها أيّ طعام. لذلك قرّرنا أن يذهب كلّ منّا في سبيله، غدًا، ولا يعود!” فرجاهم القدّيس أن لا ييأسوا من رحمة الله قائلاً: “لا تُعطى نعمة الله إلاّ بامتحان، ولقد قيل: البكاء يحلّ في المساء أمّا السّرور فيوافي في الصّباح (مزمور 29: 5). فأنتم أيضًا تُعانون الآن من الجوع ولكن غدًا تفرحون بعطايا كثيرة“. في هذه اللّحظة بالذّات سمع الإخوة طرقًا على الباب فقام أحدهم وفتح، وإذ به يُسرع إليهم، بعد هنيهة، مشرق الأسارير، متهلّلًاليعلن أنّ في الباب مَن يحمل خبزًا كثيرًا، فاندهش الإخوة ومجّدوا الله. ثمّ قاموا فأخذوا بركة أبيهم وأكلوا وتعزّوا تعزية ليست بقليلة.

تقشّفه

        كان سرجيوس، في تلك الحقبة، قويّ البنية يعمل عمل رجلين أو ثلاثة ولا تعرف همّته الكلال. يقضي لياليه بطولها في الصّلاة، لا يعرف النّوم إلّا لمامًا، ويقضي نهاريه في العمل الصّامت الدّؤوب. لا يقتات سوى بالخبز وبالقدر اليسير. لم يلبس مرّة ثوبًا جديدًا. وما كان يستتر به ويستدفئ لم يتعدّ كونه أطمارًا وسخة مرقّعة مشبعة بأعراقه. كان بسيطًا متواضعًا رزينًا رفيقًا.

طيور عجيبة

        ونمت الجماعة بالرّوح لا بالعدد، على هذا النّحو، ردْحًا، إلى أن أخذت أعدادهم تتكاثر. يحكى، في هذا السّياق، أنّه فيما كان القدّيس سرجيوس يصلّي لرهبانه إلى ساعة متأخّرة من اللّيل، مرّة، سمع فجأة صوتًا يناديه: “سرجيوس، سرجيوس!“. فتطلّع حواليه، ثمّ قام إلى النّافذة ففتحها، وإذا به أمام نور غير عاديّ نازل من السّماء والصّوت يقول له: “سرجيوس، سرجيوس! لقد قبل الرّبّ صلاتك من أجل أولادك! انظر أيّ جمع اجتمع حولك باسم الثّالوث القدّوس!” فتطلّع سرجيوس فرأى أسرابًا من الطّير عجيبة تحوم فوق الدّير. وتابع الصّوت قائلًا: “على قدر هذه الطّيور سيكون تلاميذك!

الشّركة وأربعون ديرًا

ثمّ إنّ خبر سرجيوس بلغ فيلوثاوس، بطريرك القسطنطينيّة في ذلك الزّمان، فبعث إليه برسالة حضّه فيها على تنظيم الحياة الرّهبانيّة عنده على أساس الكينوبيون أو الشّركة، وفيها يصلّي الرّهبان الصّلوات الكنسيّة مجتمعين، وينامون في قلالي مشتركة وينقسمون إلى فرق عمل ويشتركون في أمور الحياة ولا تكون لأيّ منهم ملكيّة خاصّة. وقد أطاع سرجيوس لتوّه وباشر تغيير النّظام في الجماعة من إيديوريتمي إلى شركوي. كان ذلك ابتداءً من العام 1354 م. ومع أنّ الأمور أخذت تنتظم في هذا الإتّجاه شيئًا فشيئًا، إلّا أنّ بعض الإخوة بدأوا يتململون إلى أن كاد تململهم يتحوّل إلى عصيان، فأضحت الجماعة على شفير الإنقسام والإنفراط لولا تجرّد القدّيس سرجيوس الّذي آثر الإنصراف عن الجماعة، ولو إلى حين، على فرض النّظام الجديد فرضًا. شوقه، في كلّ حال، كان إلى حياة الخلوة. وقد بيّنت المستجدّات بعد ذلك أنّ يد الرّبّ كانت في ما حدث لأنّ سرجيوس بدأ بتأسيس دير في غير مكان. وكان هذا خطوة في اتّجاه تأسيس عدد من الأديرة هنا وهناك، يظنّ الدّارسون أنّها بلغت، يومها، الأربعين عددًا. يُذكر أنّ سعي القدّيس سرجيوس إلى الحياة الرّهبانيّة المشتركة كان بمثابة بعث لها بعدما زالت إثر الغزو التتريّ للبلاد الرّوسيّة.

سرجيوس أبًا للشّعب الرّوسيّ

        وذاع صيت القدّيس سرجيوس في كلّ مكان حتّى إنّ ألكسي متروبوليت موسكو عرض عليه خلافته عام 1378 م فامتنع. غير أنّه لعب دورًا في حفظ السّلام بين الأمراء المُتخاصمين الّذين كانوا يأتونه مسترشدين من كلّ صوب. ويذكر التّاريخ أنّه لما أراد الدّوق ديمتري إيانوفيتشالخروج لمحاربة قبائل التّتر، عام 1380، جاء إلى سرجيوس سائلًا البركة فباركه قائلًا: “سوف تنتصر بعون الله وسترجع معافى كريمًا“. وبالفعل، تمكّن الدّوق من دحر أعدائه ورفع عن الشّعب الرّوسيّ نير مستعبديه.

من نِعَم الله عليه

        وينقل كاتب سيرته عددًا من الرّؤى الّتي شاهدها وعجائب أجراها الله بواسطته. ومن الرّؤى مثلًا أنّه كثيرًا ما كان ملاك من عند الرّبّ يشترك معه في الخدمة الإلهيّة، وأنّه فيما كان، مرّة، يرتّل المديح لوالدة الإله رافعًا الصّلوات الحارّة من أجل ديره، جاءته برفقة الرّسولين بطرس ويوحنّا وقالت له إنّ صلواته قد قبلت وإنّها لن تترك ديره بعد اليوم. ومن العجائب المَنسوبة إليه شفاؤه المرضى وطرده الأرواح الشّرّيرة وإقامته الموتى. ونورد في هذا المقام إحدى هذه العجائب وهي إخراج ماء من الأرض قريبًا من ديره. ذلك أنّه لم يكن بقرب الدّير أيّ ماء وكان على الإخوة أن يذهبوا بعيدًا لقضاء حاجتهم. وقد أضحى الأمر شاقًّا بعدما زاد عددهم. فكان أن تذمّر بعضهم على القدّيس قائلًا: لماذا استقرّ في هذا الموضع ولا ماء فيه؟! فأجابهم القدّيس: “لأنّ رغبتي كانت أن أكون في هذا المكان وحيدًا. ولكن، شاء الله غير ذلك. لذلك أقول لكم صلّوا بحرارة ولا تيأسوا، لأنّ مَن أفاض المياه من الصّخرة للعبرانيّين العُصاة، كيف يتخلّى عنكم أنتم الّذين تتعبون من أجله ليل نهار“. ثمّ أنّه صرفهم وسار برفقة واحد من تلاميذه قليلًا إلى أن بلغ حفرة اجتمع فيها بعض مياه الأمطار. هناك جثا على ركبتيه وأخذ يصلّي قائلاً: “يا الله، إلهنا، وأب ربّنا يسوع المسيح، يا مَن خلقت السّماء والأرض وكلّ خليقة منظورة وغير منظورة، يا مَن خلقت الإنسان من العدم ولم تشأ موت الخاطئ إلى أن يرجع فيحيا، إنّنا، نحن الخطأة غير المستحقّين، نطلب إليك فاستجب لنا في هذه السّاعة الحاضرة ليتمجّد اسمك. وكما أجريت بيدك القويّة عجيبة لموسى في البرّيّة لما أفضت المياه من الصّخرة بأمرك، فأنت الآن هنا أظهر قوّتك لأنّك أنت خالق السّماء والأرض، وامنحنا في هذا الموضع ماء ليعرف الجميع أنّك مستجيب لصلوات خائفيك ويمجّدوا اسمك، أيّها الآب والابن والرّوح القدس، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين آمين“. وإذا بالمياه تخرج من الأرض بغزارة وتملأ المكان. من هذه المياه، وإلى اليوم، صار الدّير يقضي حاجته.

        عاش القدّيس سرجيوس ثمان وسبعين سنة، وقد كشف له الرّبّ الإله ساعة موته قبل ذلك بستّة أشهر فأعدّ نفسه وتلاميذه وزوّدهم بتوجيهاته وأقام عليهم تلميذه المُتفاني نيقون وأسلم الرّوح. كان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر أيلول من العام 1392 م أو ربّما من العام 1397 م.

X – في بيوت المؤمنين القادرين جرت العادة في روسيا أن تفرد غرفة للصلاة وتكون بمثابة الكنيسة البيتية.

 

مواضيع ذات صلة