Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

  


الأحد 31 آذار 2019

العدد 13

أحد السّجود للصّليب المُقدّس

اللّحن 3- الإيوثينا 11

أعياد الأسبوع: :31* (السّجود للصّليب المُقدّس)، الشّهيد إيباتيوس أسقف غنغرة *1: البارّة مريم المَصريَّة، الشّهداء يارونديوس وباسيليوس *2: البارّ تيطُس العجائبيّ *3: البارّ نيقيطا، يوسف ناظم التّسابيح *4: البارّ جرجس (مالاون)، البارّ زوسيماس *5: الشّهداء كلاوديوس وديودورس ورفقتهما، ثيوذورة التّسالونيكيّة، (المَديح الرَّابِع) *6: أفتيشيوس بطريرك القسطنطينيّة، غريغوريوس السِّينائيّ.

كلمة الراعي

السُّجود للصّليب والعبور إلى الحياة

الصَّليب هو رمزٌ للمصلوب عليه ولا وجود له من دونه. في كنيستنا الأرثوذكسيّة لا نجد الصَّليب إلّا والرّبّ يسوع المسيح مصلوبًا عليه. لا قيمة للصّليب من دون يسوع الَّذي عليه. لولا يسوع المسيح لما كان للصّليب من قيمة أو فعل. صار الصّليب علامة للغلبة على الشّيطان والخطيئة والـــــــمــــــــــــــــوت لأنّ المــــــــــــــــــــــســيح يســــــــــــــــــــوع "ربّ المجد" (1 كورنثوس 2 : 8) سُمِّرَ عليه. ليس الصّليب علامة فقط بل قوّة الله فاعلة فيه. خشبة الصّليب التصقت بجسد الرّبّ المصلوب عليه فسكنت فيها قوّة  الله. وكلّ إشارة للصّليب نرسمها تُرعب الشّياطين لأنّها بالإيمان اعتراف كامل بالثّالوث والتّجسّد والصّلب والدّفن والقيامة والصّعود والعنصرة وحضور الملكوت...

*          *          *

نرتّل في هذا اليوم: "لصليبكَ يا سيِّدنا نسجد. ولقيامتك المقدّسة نمجّد". نسجد للصّليب بسبب الّذي هو مُسمَّر عليه. نسجد للرّبّ يسوع المسيح الَّذي رُفِعَ على الخشبة ليجذب إليه الجميع (راجع: يوحنا 12: 32). ما معنى أن نسجد للصّليب؟ إنّه سجود أمام الرّبّ يسوع انسحاقًا وطلبًا للرّحمة تعبيرًا عن التّوبة وحاجتنا لقوّة الصّليب الغالبة للشّرّ والخطيئة والموت الرّوحيّ فينا. لا معنى لسجودنا أمام صليب الرّبّ ما لم يكن هذا السّجود بروح التّوبة والرّغبة بالانعتاق من عبوديّة الخطيئة. الّذي لا يريد أن يتوب يبرِّر ذاته دائمًا، يلقي اللّوم على غيره، على الإكليروس على الكنيسة، هو لا يقوم بتوبة ما لم يحصل على شيء بالمقابل. هذه توبة كاذبة وليس فيها رغبة بالتّحرّر. سجودنا للصّليب هو رمز لنزولنا إلى جحيم أنفسنا إذ نَكْفُرُ بأنفسنا وبمحوريّة أنانا لنموت عنها حبًّا بالرّبّ لأنّنا نريده أن يكون هو حياتنا ووجودنا. نميت الأنا بنزولنا إلى الأرض في سجودنا ورأسنا مُعَفَّرٌ بالتّوبة والخشوع ليرفعنا الرّبّ بقيامته منبعثين إلى حياة جديدة بالرّوح القدس عربونًا للحياة الأبديّة. حينها يصير قيامنا من سجودنا تمجيدًا للرّبّ القائم من بين الأموات واشتراكاً في قيامته.

*          *          *

"مَنْ أرادَ أنْ يَتبَعني فَلْيَكْفُرْ بنَفْسِهِ ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني" (مرقس 8: 34). لكلٍّ "صليبه". الآخَر هو صليبي. هذا منطق السّقوط. الّذي لم يعرف المسيح يرى في الآخَر تهديدًا له، لا يستطيع أن يتقبَّل أنّ الآخَر هو مرآته الّتي تكشف له حقارته أي سوء نيّته وعدم قدرته على تحمّل وجود من هو بإزائه. الإنسان خدّاع لنفسه، يجمِّل مواقفه لكي يخفي نواياه، هذه "شطارة" أهل العالم. من يقبل ألّا يكون هو كلّ شيء والمُتحكِّم بما بين يديه، سواء أكان هذا مسؤوليّة أم بشرًا أم أموالًا منقولة أو غير منقولة. الإنسان الجاهل لله أَلَمُه الكبير أنّه لا يملك شيئًا سوى العدم، لذلك تراه يركض وراء الإنجازيّة. والجاهل قد يكون أيّ إنسان إكليريكيًّا كان أم علمانيًّا، ونحن هنا نتحدَّث على واقع الحياة وليس نظريّات. من يعرف الله يعرف نفسه أنّه لا شيء في ذاته، هو "تراب ورماد" (أنظر: تكوين 18: 27 ويشوع بن سيراخ 17: 31). صليب المسيح يكشف لك أنّك من أديم الأرض لولاه، لكنّ المتمسِّك بهذه الدّنيا لا يطلب سوى أن يلحس التّراب أي كلّ ما هو فانٍ.

*          *          *

أيّها الأحبَّاء، المسيحيّ إنسان حبّ وبذل وعطاء أي شبيه بمعلّمه، الّذي صَلَبَتْهُ البشريّة بخطاياها وقَبِلَ أن يحمل هذه الخطايا على عاتقه ليحرّر خليقته من سلطان الموت الرّوحيّ لأجل القيامة الأبديّة. الآخَر صليبي حين أكون خارج المسيح، أمَّا في المسيح فأناي هو صليبي أي موتي الرّوحيّ الّذي بحبّ المسيح يتحوّل إلى أداة خلاص إذ يموت مع خطايا البشريّة الّتي حملها الرّبّ على عاتقه وأماتها ودفنها إلى الأبد للفناء فأقوم في الرّبّ صالبًا على الدّوام حبّ العالم في ذاتي إذ يصير المسيح حياتي.

كيف نحقِّق هذا، وما هو الطّريق الّذي يجب أن نسلك فيه؟ الأمر بسيط: "الطّاعة" لمشيئة الرّبّ في حقّ الإنجيل من خلال الكنيسة والمتواضعين ...

ومن استطاع أن يقبل فليقبل ...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)

لِتفرحِ السّماويّات. ولتَبتَهِجِ الأرضيّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووطِئَ الموتَ بالموت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريّة  الصّليب (باللَّحن   الأوّل)

خلِّصْ يا ربُّ شعبَكَ وبارِكْ ميراثَك، وامنَحْ عبيدَكَ المؤمنينَ الغلبَةَ على الشِّرِّير، واحفَظْ بقوَّة صليبِكَ جميعَ المختصِّينَ بك.

قنداق  (باللَّحن   الثّامن)

إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ رايات الغلبة يا جنديّة مُحامية، وأقدّم لكِ الشّكر كمنقذة من الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ، إفرحي يا عروسًا لا عروس لها.

الرّسالة   ( عب 4: 14-16، 5: 1– 6)

خَلِّصْ يا رَبُّ شَعبَكَ وبارِكْ ميراثَك

إِلَيْكَ يا رَبُّ أَصْرُخُ إِلهي

يا إخوة، إذ لنا رئيسُ كَهَنةٍ عظيمٌ قد اجتازَ السَّماواتِ، يسوعُ ابنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بالاعترافِ. لأنْ ليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أَنْ يَرثِيَ لِأَوْهَانِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خَلا الخطيئة. فَلْنُقْبلْ إذًا بِثِقَةٍ إلى عرشِ النِّعْمَةِ لِنَنَالَ رحمةً ونجدَ ثِقةً للإغاثةِ في أَوانِها. فإنَّ كلَّ رئيسِ كهنةٍ مُتَّخَذٍ من النَّاسِ ومُقَامٍ لأجلِ النَّاس في ما هو لله ليُقرِّبَ تَقادِمَ وذبائِحَ عن الخطايا، في إِمكانِهِ أَنْ يُشْفِقَ على الَّذينَ يجهَلُونَ ويَضِلُّونَ لِكونِهِ هو أيضًا مُتَلَبِّسًا بالضَّعْفِ. ولهذا، يجبُ عليهِ أَنْ يُقَرِّبَ عن الخطايا لأجلِ نفسِهِ كما يُقرِّبُ لأجلِ الشَّعْب. وليسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ لِنَفسِهِ الكرامةَ بَلْ من دعاهُ اللهُ كما دعا هارون. كذلكَ المسيحُ لم يُمَجِّدْ نَفْسَهُ ليَصِيرَ رئيسَ كهنةٍ بل الَّذي قالَ لهُ: "أَنْتَ ابني وأَنا اليومَ ولدْتُكَ". كما يقولُ في مَوضِعٍ آخَرَ: أَنْتَ كاهِنٌ إلى الأَبَدِ على رُتْبَةِ ملكيصادق.

الإنجيل  )مر 8: 34– 38، 9: 1)

قال الرَبُّ: مَنْ أرادَ أنْ يَتبَعني فَلْيَكْفُرْ بنَفْسِهِ ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني. لأنَّ مَنْ أرادَ أَنْ يُخَلِّصَ نفسَه يُهْلِكُها، ومَنْ أَهْلَكَ نفسَهُ مِن أَجلي وَمِنْ أَجْلِ الإنجيلِ يُخَلِّصُها. فإنَّهُ ماذا يَنْتَفِعُ الإنسانُ لو رَبحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ أمْ ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفْسِهِ؟ لأنَّ مَن يَسْتحِي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئ يَسْتحي بهِ ابْنُ البَشَر متى أَتَى في مَجْدِ أبيهِ مَع الملائِكَةِ القِدِّيسين. وقالَ لهُمْ: الحقَّ أَقولُ لكم إنَّ قَوْماً مِنَ القائِمِين هَهُنا لا يَذوقونَ الموْتَ حتى يَرَوا مَلكوتَ اللهِ قد أَتَى بقُوَّةٍ.

حول الصليب

تحتفل الكنيسة المقدّسة في الأحد الثّالث من الصّوم المبارَك بعيد الصّليب المقدّس. لهذا نقرأ الفصل الإنجيليّ حيث يقول الرَّبّ: "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني". إنّها دعوة أن نتبع يسوع في حياتنا اليوميّة وأن نستوحيه في كلّ ما نعمله وأن نُطيع تعاليمه وألّا نتبع سواه أو شهواتنا. فما هي قصّة الصّليب المقدّس؟

عند صلب وموت السّيّد المسيح على جبل الجلجلة. وبعد هذه الحادثة اختفت آثار الصّليب الّذي صُلِب عليه السيّد المسيح، لأنّ الرّومان رَمَوْهُ في الحفرة الكبيرة الّتي كانت قريبة من جبل الجلجلة، وأقاموا مكانه معبدًا للإله الرومانيّ فينوس ليمنعوا المسيحيّين الأوائل من زيارة المكان وتكريم الصليب المقدّس. واستمرّ الوضع هكذا إلى سنة 326 ميلاديّ، عندما حضرت القدّيسة هيلانة الإمبراطورة والدة الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى أورشليم للبحث عن خشبة الصّليب المقدّس .وعندما سألت عن الأمر أخبروها بأنّ الصّليب مدفون بقرب المعبد فينوس الّذي أقامه الإمبراطور أدريانوس، فأمرت بحفر المكان فعثرت على ثلاثة صلبان ولـمّا لم تعرف أيّ واحدٍ منها هو صليب السّيّد المسيح الحقيقيّ، اقترح البطريرك مكاريوس أن يوضع واحد تلو الآخر على جثّة أحد الموتى الّذين كانت جنازتهم بالمكان في ذلك الوقت، فعندما وضع الصّليب الثّالت، عادت للميت الحياة بأعجوبة باهرة، وبعد ذلك وضعوا الصّليب على امرأة مريضة فشفيت في الحال، عندئذٍ رَفَع البطريرك مكاريوس خشبة الصّليب ليراها جميع الحاضرين فرتلوا "يا رب ارحم"، ودموع الفرح تنهمر من عيونهم، ورفعت القدّيسة هيلانة الصّليب المقدّس على جبل الجلجلة وبَنَتْ فوقه الكنيسة المعروفة إلى يومنا هذا. وفي سنة 614 ميلاديّ كان كسرى ملك الفرس قد اجتاح أورشليم وأسَرَ ألوف المسيحيّين وفي مقدّمتهم البطريرك زكريّا، ونقلهم إلى بلاده، وأخذ ذخيرة عود الصّليب الكريم غنيمة، وبقيت في حوزته أربع عشرة سنة. وفي عام 628 ميلاديّ استطاع الإمبراطور البيزنطيّ هرقل الانتصار على الفرس، كانت أهمّ شروطه إطلاق المسيحيّين وإرجاع ذخيرة خشبة الصّليب المقدّس. وكان كسرى الملك قد مات ونصّب مكانه ابنه سيراوس فقبل هذا بالشّروط وأطلق الأسرى سالمين مع البطريرك زكريّا بعد أن قضوا في الأسر 14 سنة، وسلّم ذخيرة عود الصّليب إلى الإمبراطور هرقل وكان ذلك سنة 628 ميلاديّ. فأتى بها هرقل إلى القسطنطينيّة الّتي خرجت بكلّ ما فيها لاستقباله وتراتيل النّصر والابتهاج .وبعد مرور سنة جاء بها الإمبراطور هرقل إلى أورشليم ليركز عود الصّليب في موضعه على جبل الجلجلة وهو يلبس أبهى الثّياب وجواهر الملوك. فقام لملاقاته الشّعب وعلى رأسهم البطريرك زكريّا، فاستقبلوه بأبهى مظاهر الفرح والمشاعل والتّرانيم وصاروا حتّى طريق الجلجلة. وهناك توقّف الملك بغتة بقوّة خفيّة وما أمكنه أن يخطو خطوة واحدة، فتقدّم البطريرك وقال للملك "إنّ السّيّد المسيح مشى هذا الطّريق حاملًا صليبه، مكلّلًا بالشّوك لابسًا ثوب السّخرية والهوان، وأنت لابس أثوابك الأرجوانيّة وعلى رأسك التّاج المرصّع بالجواهر، فعليك أن تشابه المسيح بتواضعه وفقره". فأصغى الملك إلى كلام البطريرك، وارتدى ثوبًا حقيرًا ومشى مكشوف الرّأس، حافي القَدَمَيْن، فوصل إلى الجلجلة، حيث ركّز الصّليب في الموضع الّذي كان فيه قبلًا.

في هذا اليوم يقترب انتصاف الصّوم ونرى أنّ بعضًا من المـؤمنين يملّون هذا الجهاد ويتعبون. وحتّى لا يتركوا هذه الرّيـاضة، ولئلّا يقعوا في التّجـربة، رفعت الكنيسة-الأم الصّليب أمام أعينهم في تطواف، فيتقدّمون للسّجود له ويعانقونه ليتعلَّموا أنّهم مصـلوبون مع المسيح ويشتاقوا إلى قيامته. وإذا ما قبّلوا الصّليب مرفوعًا على صينيّة ومُحاطًا بالرّياحين أو الزّهور، يعطي الكاهن كلّ واحدٍ منهم زهرة ليذكّرهم أنّه "بالصّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم"، وهكذا يتشدّدون .فإنّ الصّليب هو منطلق سائر الخيرات: عند الصّليب ماتت الخطيئة وعنده مات الموت، لم ينته الأمر في الصّليب، بل تبعته القيامة. الرَّبّ لم يعبر إلى القيامة إلّا بالصّليب، وقد قال فيلسوف مُلحِد ساخرًا من المسيحيّين: "المسيح هو آخر مسيحيّ". هذا هو تحدّينا الدّائم، أن نبرهن أنّنا مثلُ مسيحنا، وإلّا فالمسيحيّة ماتت مع المسيح على الصّليب!

العمى الجسدي والعمى الرّوحيّ

في البَدء لا بدّ من تعريف لهذين النّوعَيْن من العَمى، ومِن ثَمّ نتحدّث على التّمايز بينهما لمعرفة أيّهما هو الأكثر انتشارًا والأكثر خطورة، وما هي أسبابهما وكيفيّة الشّفاء منهما. العمى الجسديّ في معجم المعاني يعني "حالة من فقد الإدراك البَصَريّ ويعود هذا الأمر إمّا لعوامل فيزيولوجيّة أو عصبيّة، وهذا العمى يكون إمّا جزئيّاً أو كلِّيّاً، وفي حال كان كلّيّاً يُطلَق على الأعمى كلمة "كفيف". أمّا العمى الرّوحيّ فهو العيش في الظّلام، وهنا لا يُقصد بالظّلام غياب نور الشّمس، بل غياب النّور الرّوحيّ، النّور الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه القدّيس يوحنّا في مُستهلّ إنجيله "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يو9:1-11). العمى الرّوحيّ هو أن تعيش بعيداً عن النّور الحقيقيّ أي عن الله. ومن الممكن أيضًا أن يكون ثمّة عمى روحيّ جزئيّ كمِثال العذارى الجاهلات اللّواتي نور قناديلهنّ لم يَكفي لهنّ لمقابلة العريس، ويوجد عمى روحيّ كلّيّ كالكتبة والفرّيسيّين الّذين رفضوا الرَّبّ وصلبوه. لا يوجد ترابط أو علاقة بين العمى الجسديّ والعمى الرّوحيّ، فمن المُمكن أن يكون الإنسان أعمى جسديًّا ولكنّه ليس أعمى روحيًّا، فاقد البصر وليس البصيرة. ولدينا في الكتاب المقدّس نموذج وهو المولود الأعمى المذكور في إنجيل يوحنّا. هذا عرف الرَّبّ رغم أنّه لم يرَه بعينيه الجسديّتين، على خلاف الكتبة والفريسيّين الّذين كانوا يشاهدون الرَّبّ وجميع عجائبه ولكن لم يعرفوه البتّة. أمّا من حيث خطورة المَرضَيْن، فيُعَدّ العمى الرّوحيّ هو الأصعب لأنّه يؤدّي إلى هلاك الرّوح "لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ" (مت 28:10). لدينا في عصرنا هذا نموذج لتفوّق البصيرة على البَصَر، هي قدّيسة إسمها "مَطرونَة الكفيفة" من البلاد الرّوسيّة رقدت عام 1952 وكانت كفيفة العَينين، ولكنّها كانت تبصر حالات زوارها وتساعدهم وتقوّيهم. ولا يزال قبرها حتّى الآن في موسكو مصدراً للعجائب والأشفية الّتي ينالها طالبوها بإيمان. إنّ أسباب العمى الجسديّ كما ذكرنا آنفًا هي فيزيولوجيّة أو عصبيّة عضويّة، ومن الممكن أن يحصل العمى الجسديّ نتيجة حادث على أثره يفقد الإنسان بصره، وأحيانًا يولد الإنسان أعمى، وهذا يحدث نتيجة مرض في الجينات أثناء الحمل. والعلم والطّبّ يعملان على إيجاد علاج لبعض حالات العمى الجسديّ، أو ربّما لتحسين وضع المريض جزئيًّا.

هذا من جهة العمى الجسديّ، أمّا سبب العمى الرّوحيّ فهو رفض إراديّ للنّور (للرّبّ) وتعلّق بالشّرّ إذ "أحبّ النّاس الظّلمة أكثر من النّور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة". ولا يتمّ الشّفاء منه إلاّ بالاعتراف والحياة الرّوحيّة القويمة والجهاد الروحي المستمرّ  في كنف الكنيسة الّتي لطالما عُرِفَت بأنّها "المستشفى الرّوحيّ" لكلّ المؤمنين.

في الختام نسأل الله، نور العالم، أن يُنير حياتنا بنور وجهه، وأن يُنير بصرنا وبصيرتنا لنكون له في العالم شهود حقّ، كي نصبح نحن أنوارًا توضع على المنارة ليستضيء بها كلّ من يبحث عن الحياة الأبديّة. وفي هذا الأحد المبارك، أحد رفع الصليب الكريم المحيي، فليدنُ كلّ واحد منّا من الله بتوبة وانسحاق قلب ويصرخ بإيمان مع ناظم التّسابيح قائلاً من أعماق نفسه الخاطئة: "أنّي أتقدّم إليك أيّها المسيح وأنا مكفوف حَدَقَتَيْ نفسي كالأعمى منذ مولده. صارخًا إليك بتوبةٍ أنت النّور الفائق الضّياء للّذين في الظّلام". آمين!

صوم مبارك للجميع

انقر هنا لتحميل الملف